مقال المصري اليوم: بين المواطن العالة والمستثمر الحيلة

القائد هو الأب والدولة هي الأم. رؤية ولدت مع يونيو 1952، لكننا لا نستطيع أن نحدد متى ولدت صورة المواطن بوصفه الابن المعوق العالة على أبيه وأمه.

ربما بدأ الأمر مع الانفتاح الاقتصادي. كانت دولة السادات التي تستمد شرعيتها من يوليو، مجبرة على تأكيد التزامها بالفقراء. وفي مقابل الفرص السرية غير المحدودة لقلة محدودة للمستثمرين، بدأت تبالغ في الإعلان عن الفتات الذي تلقيه للأغلبية الفقيرة.

وفي النصف الأول من حكمه ظل مبارك ساداتيًا، أي ظلت الدولة تحابي المستثمر سرًا، ودون فجور صارخ، وفي النصف الثاني من حكمه صارت المحاباة علنية بفضل بيزنس النجلين، واستمر الخطاب الرسمي والإعلامي في تأكيد التمسك برعاية الفقراء، لكن بدأت نغمة توبيخهم، وفي المقابل الإشادة بالمستثمر، باعتباره الابن الناجح الذي حل محل الرئيس والدولة (الأب والأم اللذان منحاه الامتيازات كما يفعل بعض الآباء الظلمة).

تضعضعت موارد الدولة بعد بيع أصولها، وأصبح  المستثمر هو الابن المميز أو  حيلة أمه، الذي يعيل الأم والأب والأخوة الضعاف. لا تطلب منه الدولة المكسورة الضرائب ، بل الزكاة والتبرعات. ويكاد الخطاب الرسمي يكون اعتذاريًا، لهذا المواطن المميز الذي يتحمل المواطنين العالة. حتى عندما تستجيب الدولة لنداءات تشجيع الاستثمارات الصغيرة؛ فإنها لا تفكر بالمستثمر الصغير إلا باعتباره قادمًا من صفوف الأغلبية العالة، وعليها أن تمنحه القرض والماكينة والأرض، ثم تنصرف وتتركه يواجه مصيره!

وإذا أخذنا أراضي الاستصلاح، على سبيل المثال، سنجد أن الدولة تمنح الشاب خمسة أفدنة، دون أن تضع قواعد لاستخدام المياه، أو طريقة التشارك فيها، مما يفتح الباب لنزاعات بين الجيران، الغلبة فيها للأقوى، ثم تترك الجيران جميعًا تحت رحمة اللصوص، الأمر الذي يجعل من الاستثمار الحيواني مغامرة تتطلب الكثير من المال للإنفاق على الحراس الخصوصيين.

ولو لم يكن لدى الدولة ذلك الاعتقاد الراسخ بأن المواطن عالة، لانتبهت إلى المزارع القائمة بالفعل في مجتمعات زراعية  مثل الصالحية، لا تحتاج سوى الأمن، لكي يتجه مزارعوها إلى الإنتاج الحيواني.

ولو كانت الدولة ترى غير المستثمر الحيلة لانتبهت منذ زمن بعيد إلى خروج القرى القديمة من دائرة الإنتاج. ربما تحتاج قصة تحويل الفلاح من مواطن منتج إلى مواطن عالة إلى مقال مستقل، لكن بالنتيجة ظلت معادلة المواطن العالة والمستثمر الحيلة تسير في طريقها المرسوم: المواطن العالة يتلقى ما يضمن بقاءه بعيدًا عن الطريقين الخطرين: الموت والثورة. في المقابل يتزايد إحساس الدولة بالانكسار الذي يشعر به أي أب وأية أم أمام الابن الذي يعيل إخوته.

وبعد ثورتين، لم يزل الخطاب الاقتصادي المهيمن هو قسمة المواطنين إلى مواطن عالة، ومستثمر حيلة أمه، مصريًا كان أو أجنبيًا!%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%83

العطايا للمواطن الحيلة مستمرة، وكذلك الإعفاءات حتى من شروط تشغيل عماله، بينما تتزايد الأعباء على المواطن العالة، حتى أصبح عائلاً للجميع. الضرائب الوحيدة المضمونة هي ما يُقتطع من مرتبات الموظفين التي انخفضت قيمتها السوقية إلى النصف، وبدلاً من التعويض زادت الأسعار، في تزامن مع تأجيل ضريبة الأرباح الرأسمالية!

وفي ظل كل هذا الميل، يتصاعد خطاب التوبيخ للمواطن العالة الذي يجب أن يتحمل الضيق، حتى لا نصبح سوريا أو العراق، وكأن سوريا والعراق أصبحتا في هذا الوضع بسبب رفض مواطنيها زيادة أسعار السولار!

تيار اللاعدالة المسلح بالغوغائية عارم. وقد تصلح الغوغائية السياسية لبعض الوقت، لكنها تستهلك فرص الاستقرار.