مقال المصري اليوم: عن الفلاح وبيته..حدث ولا فرح!

تركت القرية للفوضى" فكان هذا التحضر الرث الذي أصاب حياة الفلاح واقتصاده بالتآكل.
تركت القرية للفوضى” فكان هذا التحضر الرث الذي أصاب حياة الفلاح واقتصاده بالتآكل.

ضرب الاقتصاد الريفي من خلال إلغاء الدورة الزراعية، كان إحدى أقوى الطعنات التي سددتها جماعة جمال مبارك إلى قلب الاقتصاد المصري. تسبب هذا الإجراء في تقليل العائد مما ساهم الاستهانة بالزراعة واستسهال البناء على الأرض الزراعية.

وإذا كان شرف إهمال الزراعة يقتصر على جماعة نهب مصر المتحكمة منذ ١٩٩٥، فإهمال حياة الفلاح، وخصوصًا شكل بيته، وتخطيط قريته سمة تجمع حكومات مصر من الفراعنة إلى اليوم!

 تصميم البيت وتخطيط القرية له علاقة بحقوق الإنسان وراحته وصحته، ومن جهة أخرى يرتبط بالناتج القومي، فالتخطيط الأمثل للقرية يقلل من مساحة  الأرض المطلوبة للسكن، ومن شأنه أن يوفر أماكن للحيوانات والطيور، وهذا جزء مهم، بل الأهم من دائرة الإنتاج الريفي، فالمحاصيل وحدها لا تحقق الربح، لكن استخدام مخلفاتها كعلف حيواني يعزز عائد الزراعة.

في غيبة مبادرة الدولة بالتنظيم، ابتدع الفلاح لنفسه شكل البيت الذي يستوعب حيواناته وطيوره معه، وتراصت البيوت عشوائيًا على حارات ضيقة. وظل الأمر على هذا النحو حتى بدأت ظاهرة سفر القرويين للعمل بالخارج منذ نهايات السبعينيات. بدأت الأموال تتدفق إلى القرى، وبالتوازي مع زيادة حجم الأموال العائدة، كانت أبواب الاستثمار الزراعي  تزداد انغلاقًا، لصعوبة التراخيص وغلاء الأعلاف. ولم يكن أمام العائدين سوى استخدام  تحويشة الغربة في بناء بيوت جديدة تفوق حاجتهم في أغلب الأحيان.

أنشأ العائدون بيوتًا تشبه بيوت المدن التي رأوها، فلم تتضمن زريبة للحيوانات أو باحة داخلية لتربية الطيور، كما لم تعد تتضمن فرنًا أو كانونًا لطهي الطعام.

وهكذا لم تعد مخلفات الزراعة تستخدم كطاقة مجانية في الطبخ والخبز والتدفئة، أصبحت تحرق في الحقول بعد مواسم الحصاد، وبدأت القرية تستهلك المزيد من الكهرباء والبوتاجاز، وتقلع عن عادة الخبيز، وتبحث عن الخبز المدعم.

بالطبع لا يمكن لمن يتحرى العدالة أن يطالب باستمرار عادة عيش الفلاح مع بهائمه كما كان يفعل منذ الفراعنة، إذا كانت هذه العادة غير صحية، ولا يمكن أن نلزم الفلاح بالخبيز الذي صار مكلفًا، بينما يوجد خبز مدعوم يستهلكه سكان المدن، لكن دولة مستيقظة كان بوسعها أن تأخذ زمام المبادرة وتضع تخطيطات معمارية للقرى، تحافظ على الثروة الحيوانية، كأن تخصص مكانًا للمعالف. وكان بوسع أية حكومة رشيدة أن تطرح مسابقة بين المعماريين لتصميم بيوت قروية ذات مداخن، مثلاً، تحافظ على استخدام المخلفات الزراعية كوقود، وهذا ليس تخلفًا أبدًا.

وإذا كانت الدولة قد غابت عند البناء، فقد حضرت بخدمات دون غيرها. أصبحت هناك مياه تنساب من الصنابير، دون وجود صرف صحي، فأخذت المجاري تتسرب إلى باطن الأرض ويعاد رفعها للشرب، وصار هناك سوبر ماركت يبيع بضائعه في أكياس بلاستيك دون وجود نظام لجمع القمامة، وصارت هناك أفران للخبز المدعم في مقابل إهمال دعم الأعلاف والأسمدة.

هذا النمو غير المستقيم الموصوف بـ «التحضر الرث» في بلدان العالم الثالث، نشر الفشل الكلوي والكبدي في القرى بشكل غير إنساني. ومن المستحيل تحقيق نهضة دون إنقاذ الإنسان الريفي أولاً،  ثم إعادة تحفيز الاقتصاد الريفي ثانيًا، من خلال إعادة الدورة الزراعية التي تتلافى عيوب تفتيت الملكية، وإعادة تشغيل جيوش المهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين.

باختصار، لابد من عودة الدولة إلى القرى لإعادتها إلى دائرة الإنتاج، بدلاً من إطلاق الحسرات التليفزيونية على فقرها.