مقال المصري اليوم: مأزق خيانة النسق!

لوحة طه قرني
لوحة طه قرني

لم تهتم النخب العائدة إلى الحكم، أو الباقية بدراسة طبيعة ماحدث في العالم العربي نهاية ٢٠١٠ وبداية ٢٠١١.

وإذا كانت الاستهانة بالشعوب تمنع هذه النخب من رؤية التغيير الذي حدث للجماهير خلال انتفاضات الربيع وما بعدها؛ فمسئوليتها ـ تجاه نفسها على الأقل ـ كانت تحتم عليها دراسة ما حدث للسلطة نفسها قبل هذه الانتفاضات.

لم يسقط ديكتاتور أو يهتز، لمجرد أن الديكتاتورية صارت جزءًا من الماضي فحسب، وبالطبع لم يسقط بمؤامرة خارجية كما يحلو للبعض أن يتصور أو يشيع، بل سقط بسبب خيانته لنسق الديكتاتورية!

وقد استطاع ديكتاتور مثل فيدل  كاسترو أن يعبر الأزمنة بكوبا، متوازيًا مع حكم عبدالناصر، والسادات، ومبارك،  قبل أن يسلم السلطة لأخيه عام ٢٠٠٨. وصمد كاسترو في وجه المؤامرات الأمريكية، مستهلكًا في مسيرته تسع رؤساء أمريكيين، محافظًا على حياة النملة الكوبية تحت قدم الفيل الأمريكي.

حكم كاسترو حتى شاخ وهزل واعتزل بكامل إرادته، بفضل إخلاصه للنسق الديكتاتوري الذي يوفر للجمهور المساواة في العلاج والطعام وفرص التعليم والعمل قبل أن يطلب منه الصمت.

لا أحد يختلف على قيمة الحرية، لكن البعض يرى أن السعادة قيمة أعلى من الحرية، حتى أن النموذج الكوبي أصبح مصدر فتنة لبعض الأمريكيين والأجانب الذين يزورونه.

في فيلمه Sicko يقارن مايكل مور بين التأمين الصحي في أمريكا وكندا وبريطانيا والتأمين في كوبا، وفي الفيلم يصحب ثلاثة من مصابي ١١ سبتمبر للعلاج في هافانا، فيكتشفون أن الدواء الذي لا يقدرون على ثمنه في بلادهم شبه مجاني في كوبا للمواطن والزائر على السواء!

وكان النظامان العراقي والسوري أكثر الأنظمة العربية المرشحة للبقاء رغم بشاعتهما، لأنهما كانا مخلصين للنمط الديكتاتوري «الكفاية قبل القمع» مع نوع ما من المساواة، حتى لو أفلتت من هذه المساواة أسرة الرئيس وأصهاره وبعض أركان حكمه.

 

لم أزر العراق مطلقًا، لكنني أعرف عنه من خلال القراءة، وروايات من زاروه، أما سوريا فأزورها منذ بداية التسعيبنيات، وكانت بلدًا هنيًا للعيش، تبدو النعمة في حياة أهلها، مثلما يبدو الخوف من الأمن!

المغامرات الخارجية لصدام استدعت المؤامرات الخارجية  عليه وأسقطته بغتة، بينما اتخذت  سورية مسار التدهور والتوغل في الفساد المالي مع الإبقاء على منظومة القمع، حتى صار الحكم أعرج، وانتفضت كغيرها من بلاد الربيع.

ارتكب الأسد خطيئة «خيانة النسق» التي ارتكبها مبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح، والقذافي إلى حد ما. نبعت «خيانة النسق» من انخراط عائلات الرؤساء في البيزنس، واستدعى هذا الانخراط تشبيكًا مع آخرين في القطاع الخاص ودوائر البيروقراطية، جعلوا الدول مطايا لمشروعاتهم الخاصة. وفي المقابل تدهورت قدرة الدولة على توفير الحد الأدنى من الرعاية الاجتماعية.

أصبح «القائد الأب» عاجزًا عن توفير التعليم والعلاج والطعام، ففقد مبرره في القمع، ومع نمو ثروات الأقلية ونمو مشكلات الأغلبية فقد الأب آخر مبررات وجوده: «العدل بين الأبناء» فكان لابد أن يرحل.

كان من المستحيل أن يبقى ساكنًا إلا شعب ميت، لكن النخب الحاكمة التي لا تريد أن تعترف بالجماهير لا ترى الخشبة التي بعينها، ولا تريد أن تعترف بأن «خيانة النسق» هي أصل المشكلة، صارفة جهدها في ترميم الفخار المكسور، بالحيلة مرة وبالعنف مرات.

ومن الممكن ترميم الفخار، لكنه بعد المجهود الكبير، سيكون  صالحًا للعرض في المتاحف، وليس للاستخدام.