وليد خازندار: دم يسيل في إرث العائلة

%d8%b7%d9%81%d9%84

 

على موقعه الشخصي، نشر الشاعر وليد خازندار قصائد جديدة، والجدة هنا، لا تعني حداثة زمن الكتابة فحسب، بل هي جديدة على تجربة وليد كلها، فهي ليست موغلة في الرمز، تشتبك مع الجحيم العربي، دون تنازل عن سمات قصيدة وليد: التفاصيل الصغيرة، الألم المتدثر بالكبرياء، واللغة المتخلية عن كل ترهل. وقد اخترت ثلاثًا منها:

ملائكة محروقة عطشى

1

أحَقّاً‭ ‬تمكنُ‭ ‬رؤيتُكم
قربَ‭ ‬الهديرِ‭ ‬الذي‭ ‬انولدتُم‭ ‬عليهِ
بملابسكُم‭ ‬نفسِها
قبلَ‭ ‬نزولِ‭ ‬اليدِ‭ ‬العمياء؟

الذين‭ ‬يعرفونكم‭ ‬يؤكِّدونَ‭ ‬هذا‭.‬
يذكرونكم‭ ‬بأسمائِكم‭ ‬واحدةً‭ ‬واحداً
بوجوهِكم‭ ‬وأقدامِكم‭.‬

يمرُّ‭ ‬في‭ ‬كلامِهم‭ ‬زحفُكم‭ ‬إليهم
المُقَدَّسُ،‭ ‬قبلَ أن تكبروا‭ ‬
من‭ ‬بابٍ‭ ‬إلى‭ ‬باب‭.‬

أظافرُكم‭ ‬على‭ ‬وجوهِهم
أيديكم‭ ‬التي‭ ‬تمسكُ‭ ‬بقوَّةٍ‭ ‬بالمفاتيح‭.‬

2

يصفونَكم‭ ‬بأساريرِكم‭ ‬كُلِّها
الأليفةِ
إلى‭ ‬حدِّ‭ ‬أنَّهم‭ ‬لا‭ ‬يستغربونَ‭ ‬عودتَكم‭.‬

حريرُ‭ ‬مرورِكم‭ ‬بهم
ليس‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬هُنا‭ ‬ـ
الأرضُ‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تكبروا عليها
ولن‭ ‬تروها‭ ‬تصغرُ‭ ‬أكثر‭.‬

اليابسةُ‭ ‬القليلةُ‭ ‬المشدودةُ‭ ‬عليهم
كانت‭ ‬تكفيها‭ ‬بسمةٌ‭ ‬على‭ ‬شفاهِكم
ركضةٌ‭ ‬منكم‭ ‬إليهم،‭ ‬لتتَّسِع‭.‬

3

من‭ ‬ذا‭ ‬يدفعُ‭ ‬مركباً‭ ‬في‭ ‬الليلِ
دون‭ ‬أن‭ ‬ندري
يأخذُ‭ ‬هيئةَ‭ ‬ضوءٍ‭ ‬قويٍّ‭ ‬ثُمَّ‭ ‬لا‭ ‬يعود؟

أخايلَهُ‭ ‬خطوُكم‭ ‬ـ
أَقدامٌ‭ ‬صغيرةٌ‭ ‬حافيةٌ‭ ‬على‭ ‬الرملِ
ينحسرُ‭ ‬الموجُ‭ ‬عنها؟

هل‭ ‬ساورتْهُ‭ ‬ملائكةٌ‭ ‬محروقةٌ‭ ‬عطشى
تمُدُّ‭ ‬أيديها‭ ‬إليهِ
‬فلم‭ ‬يحتمل؟

يمكنُ‭ ‬أنَّهُ‭ ‬استعادكم‭ ‬واضحينَ
بالوصفِ‭ ‬المتعذِّر ـ
شفاهُكم‭ ‬مفتوحةٌ‭ ‬قليلاً
على‭ ‬صيحةٍ‭ ‬لم‭ ‬تقدروا‭ ‬عليها
تنظرونَ‭ ‬إلى‭ ‬أبعدِ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭.‬
____________________

يعرفونها عن ظهر غيب

بيوتُهم‭ ‬أينما‭ ‬التفتوا
مرميَّةٌ‭ ‬على‭ ‬أعمارِهم‭.‬
من‭ ‬صفنتِهم‭ ‬فيها‭ ‬أنَّهم‭ ‬يعيدونَ‭ ‬بناءَها
يرتِّبونها‭ ‬ويسهرون‭.‬

يعرفونها‭ ‬عن‭ ‬ظهرِ‭ ‬غيب‭.‬
درفةُ‭ ‬شُبّاكٍ‭ ‬واحدةٌ،‭ ‬مكسورةٌ‭ ‬جانباً
تُطِلُّ‭ ‬على‭ ‬حياتِهم‭ ‬كُلِّها
بروازُ‭ ‬صورةٍ،‭ ‬آيةٌ،‭ ‬رسمةٌ‭ ‬لأبنائِهم
يغمضونَ‭ ‬عيونَهم‭ ‬عليها‭.‬

لَهُمْ‭ ‬صورٌ‭ ‬في‭ ‬حجراتِها
يبتسمونَ‭ ‬فيها‭ ‬معاً‭.‬
الجدرانُ‭ ‬واقفةٌ‭ ‬وراءَهم
وتظهرُ‭ ‬أسقُفٌ
‬تنزلُ‭ ‬منها‭ ‬ثريّاتُ‭ ‬ضوء‭.‬

عناوينُها،‭ ‬ذاتَ‭ ‬مَرَّةٍ
كانت‭ ‬على‭ ‬الحقائب‭.‬
____________________

أيّة بلاد هذه

I

أيَّةُ بلادٍ هذهِ؟ كُلُّ هذا دمُها.

بلادُ التقِيَّةِ، العينِ الواحدةِ الكبيرةِ، عينِ الأخطبوطِ، علينا. بلادُ انهيارِ عمائرِنا، عمائرِ أيّامِنا كُلِّها.

ماذا سيبقى لنا منها، نحنُ الخائفونَ على عناوينِنا؟ الثاراتُ؟ الدِيّاتُ؟ من يغفرُ، من لا يغفرُ؟ المهزومُ إلى حينٍ، المنتصرُ إلى حين؟

ماذا يبقى لنا من أَنفُسِنا حين نتركُها؟ نكتبُ اسمَها قربَ أسمائِنا كي لا نتوه؟ نتكلَّمُ عنها في غيابِها؟ تنكسرُ خواطرُنا إليها؟

أيمكنُ أن يدورَ بعدُ مفتاحٌ في ألفةٍ في أيِّ بابٍ بعدَ الخرابِ هذا أيَّةُ بلادٍ هذهِ؟ كُلُّ هذا دمُنا.
II

كم عِرْقٍ لهذا الدمِ، دمِ الأضاحي، يتوزَّعُ بين القرابين؟

دمُ النساءِ والرجالِ يسيلُ في إرثِ العائلة. دمُ البناتِ والأولادِ تجري بهِ الساعاتُ والأيّامُ، تجري بهِ سنواتُهُ.

دمُ الطفلِ ذاهلٌ على وجهِهِ، لا يعرفُ شيئاً عن الإجاباتِ الكثيرةِ التي تتناطحُ، لا يعرفُ شيئاً عن سؤالِنا الخطأ.

الدمُ الذي يكبرُ ويهاجرُ، يغرقُ ولا يصل. يرتمي على الرملِ أنيقاً، بملابسِ وصولِهِ، كما تكونُ عليهِ القرابين. يتناولُهُ الملحُ مِنّا على الشواطئِ البعيدة.

دمٌ يتوزَّعُ في ردهاتِ الكلامِ، يتفرَّقُ بين صالاتِهِ، يظهرُ شاحباً على الأعمدةِ اليوميةِ، إن ظَهَر.

دمُنا، أهلُ البيوتِ نظلُّ نبنيها لأجلِ صباحِنا ومسائِنا. نفتحُ أبوابَها على الخرابِ، إن سلِمَتْ، نغلقُها علينا، نسمعُ الصيحات.

دمُنا، من العروقِ كُلِّها، دمُ الأضاحي.