أبو جهل السعيد وراء مكتبه الأبنوسي

نعم.. أنا أبو جهل. وهو أبو العُريّف، ولكنه يموت الآن. وصديقه الروائي المرموق يجلس في الخارج أمام سكرتاريتي كحشرة. لن أسمح له بالدخول إلا بعد أن أسحق أعصابه. الأمر ليس سهلا، أنا رئيس تحرير، حقا أنا رئيس تحرير! ولدي مهامي التي عليّ أن أنجزها، نعم أنا رجل مسئول ولست صعلوكا أجلس في البارات مثلهم وأدعي أهمية زائفة. وراء مكتبي الأبنوس ووسط الخضرة التي يرعاها مهندس زراعي أبدو ملكا. أنا ملك حقيقي. ليمت بفقر الدم في وجهه كما أراد أو بالمرض الذي لن يدعه طويلا. الوحيد الذي لم يهنئني يوم تعييني، يستجديني الآن! غبي أنا وجاهل كما يقول؟ لأكن كذلك ولكن عجلة الحظ دارت. 

 حظ؟! 

ليس حظا، المسألة ببساطة أن كل فولة ولها كيّال وأنا فولتي هي الرابحة في السوق اليوم؛ زبونها حاضر. أصبحت الكلمة لي، وما فعلته مع أبو العُريف وأمثاله من عواجيز الفرح هو العادي.. ماذا كان سيصنع بي لو ركب هو أو أحد من أصدقائه الشيوعيين؟ كل متحكم يمسك مقصا يغطي مساحة نفوذه ليقص الآخرين على قامته. وعلى الآخرين إما أن ينحنوا أو تطير رقابهم، أبو العُريف قصه المقص. كان بإمكانه أن يستمر، ولكنه نشّف دماغه فطارت، ألقيت به إلى الشارع ليستمتع بجلسات المتعطلين. أنا الملك هنا وكان بإمكاني أن أمدد له الخدمة. ها هو يستجدي العلاج اليوم وصديقه يجلس كحشرة رغم مظهر التأفف الذي يبديه كلما دخل أحدهم. يريد أن يبدو مضطرا؟! المنافق مثل صديقه يريد أن يقول: حسنة وأنا سيدك! ها هو في الكادر الثابت يبدو برما وقد أجلسوه في المقعد المكشوف للكاميرا المضبوطة على وضع الزوم.. نفس تأفف صديقه المختل الذي لم يعرف يوما ماذا يريد. عاش كل هذه المدة لا معنا ولا ضدنا. رأى كل شيء دون أن يجرؤ على الاستقالة، رأى كيف كنا نختلق القصص عن أصدقائه الشيوعيين.. المومسات اللاتي دفعنا لهن مقابل ادعاءات بأجنِّة غير شرعية، أطباء النفس الذين شهدوا بجنون بعضهم ، المطلقة المزيفة الأفضل خيالا من أصدقائه الروائيين وقد ألّفت بإحكام مشوق رواية عن جمعية لتبادل الزوجات وقصة هروبها من منزل الزوجية لرفضها الانخراط في ممارساتهم الشاذة.. لم يكن أبو العريف المتأفف يفعل سوى مط بوزه إلى مسافة أبعد وإطلاق نظرته الغاضبة، وبعد ذلك ينسى الأمر وينطلق ليقضي ليله في البارات مع المتعطلين من أمثاله، يبحثون ترتيبات الاحتفال بالثورة العالمية! ها هو صديقه المتأفف يحرر خده الناشف من دعامة أصابعه الرفيعة كمخارز السروجي. هئ! سقطت يده على مخدع الكرسي، سأتركه حتى تسقط رأسه نفسها، لماذا ينفخ بعداء هكذا؟! كأنه استعار قرف أبو العريف قبل أن يأتي؟ طظ! تأففهم لم يكن يوما مخيفا لأحد، وهم أنفسهم لم يعودوا يهمون أحدا، الجماعات الدينية أكلت الكاميرا منهم، لم يبق لهم سوى أوهام العظمة على وجوههم وملفات نائمة بهت حبرها في أرشيف الأمن. ومع ذلك.. يا الله! ماذا يريد أن يقول؟ أنا لم أكن أستحق؟ ماذا يعرف هو عن ليالي السهر الطويلة في الشتاء حتى انصراف الجميع انتظارا لتجلي رئيس التحرير في التليفون بتكليف أفوز به لغياب الآخرين؟ ماذا يعرف عن مهانة الضرب بالشلوت والمطاردة بين المكاتب تحت تهديد الكرسي المرفوع على أدنى خطأ؟ هذا اللئيم المستريح على الحياد ماذا يعرف عن تأنيب الضمير من جراء اختلاق قصص لم تحدث، عن تزييف شهادات الأمهات اللاتي كن يقابلننا بالندب على أبنائهن المختفين ليرين في اليوم التالي شهادات التبرؤ منهم التي لم يتفوهن بها والإشادة بالنظام التي حلت محل السباب والدعاء بالموت. أستحق ما أنا فيه أو لا أستحق أيها المنافق الذي يحمل قرفه الخاص أو قرف صديقه المحتضر؟! 

أدار السكرتير مقبض الباب بيد وبالأخرى لوحّ لرفعت آذنا بالدخول. مد رئيس التحرير يدا إسفنجية من خلف مكتبه دون أن يقف. “أهلا” تلقاها رفعت كشتيمة من شفة مقلوبة تبدو المنطقة الوحيدة القادرة على التعبير في وجه الرجل الذي اختفت ملامحه تحت طبقة كثيفة من لحم رجراج يصعب التحكم به. بتركيز أعاد رفعت عرض ظروف عيسى التي سبق أن لخصها للسكرتير. رن التليفون. “أوف!” زفر غاضبا بينما يجاهد ليرفع جفنه عن عين صغيرة غائصة في اللحم ليحدد مصدر الرنين قبل أن يتخير السماعة التي يرفعها. آه! فهيم بيه؟! قال بتهلل لم يستطع وجهه أن يعكسه. وتابع. لا.. لا يا فهيم بيه، هذا أقل واجب. أظن بعد هذا الموضوع ستخرس السنة الأفاكين في صحف المعارضة. الرجل مع شيك المليون في يده يبتسم للكاميرا، ويعلن أن موت ابنه كان فرصة للتعرف إلى رجل عظيم مثلك! هي هئ .. العرص يجب أن يكون قد قال هذا فعلا بعد استلام الشيك، إنه ليس أول أب يواصل الحياة بعد ابنه، لكنه سيعيش مع أولاده الباقين حياة مختلفة، تصور سيادتك كان ينوي إخراج ولد متفوق من الثانوية العامة! نعم بالضبط كما كتبنا. لأ طبعا، سيادته مبسوط جدا لانتهاء المشكلة على هذا الشكل، طبعا سيادته كان معي على التليفون منذ دقائق التي كتبت الموضوع؟ نعم هي ذكية، ولكن أنا أضع يدي في كل شيء. أنت عارف.. هي هيء. لا لا، لكن ممكن تستعين بها كمستشارة إعلامية.. آه هي حلوة، لكن أرجوك يا فهيم بيه. هي هيء .. أنا؟ يعني .. تقدر تقول حاجة من حلاوة الروح.. أنا لم أقم إلا بالواجب، وأنت خيرك سابق. 

أخذ جسده يهتز كما لو كان يتعرض لزغزغة من الطرف الآخر. شغل رفعت عينيه بتأمل الصور وشهادات التقدير المعلقة على الجدران متحاشيا النظر إليه مباشرة. خفض صوته وتابع: اسمع يا فهيم بيه. كان عندنا رجل غلبان في ديسك الجرنال، نعم .. نعم صحفي لكن حالته تعبانة، طلع معاش وعنده يكفيك الشر! إيه رأيك لو تتولى أنت علاجه؟ 

وبدأ في الهمس: هكذا سنغطي تماما على حكاية الولد القتيل، ما رأيك؟ .. أوكي .. هي التي ستكتب الموضوع، سوف تتصل بك، لكن أرجوك هي هئ!

وضع السماعة وعاد آليا إلى تجهمه ولم يكن بحاجة إلى أن يضيف شيئا. كتب اسم المستشفى على ورقة ” بكرة تكون المستشفى عندها خبر، إذا فيه أي شيء اطلبني” وقف رفعت متلقفا الورقة المطوية من يده. خرجت كلمة الشكر مالحة من فمه، ومضى باتجاه الباب دون أن يلتفت وراءه.


فصل من «غرفة ترى النيل»