لا تستحون من جوعنا، طيب، استحوا على الأقل من موتنا.
الجائع قد يكون لديه أمل في أنه سيشبع يوماً، إذا ما سافر إلى الخليج، أو إذا ما شاف الموت وعدّاه ووصل إلى أوروبا، وإذا ما تبوأ منصباً أو صاهر رجل أعمال، أو باع كلية أو كبداً لمريض ميسور. وإذا لم يكن العائش في الفقر أحد هؤلاء، فربما يقرأ صحفكم، أو تلجئه الضرورة إلى تليفزيونكم؛ فيمني نفسه بأمنيات الرخاء عندما يتوه في أرقامكم الضخمة دائماً.
لكن ماذا لدى الميت ليتصبر به في موته؟!
ولماذا أصبح المصريون يموتون هكذا دون مجد، ولأتفه الأسباب؟
نموت إذا أمطرت ونموت إذا اشتد الحر، نموت في القطار والباخرة والسيارة، نموت في العشوائيات وفي العمارات الفاخرة، نموت إذا ما تبرعنا بالدم ونموت إذا ما استقبلت شرايننا دماء المحسنين في أكياس لوثها الفساد، نموت من علاجكم أكثر مما نموت من المرض.
لا شيء في أيدينا نؤجل به موتنا الذي لاتخجلون منه، ولا تعتبرون أنفسكم مسئولين عنه، وتستكثرون أن يرطب المنكوبون قلوبهم بأمل الجنة لفقيدهم الراحل عبثاً.
المفتي أفتى بأن زوارق الموت الهاربة من جحيمكم لا تبحر بموتاها إلى بر الشهادة. إذا كان هذا قدر غرقى البحر، فماذا عن ضحايا حوادث الأمطار يا مولانا، الذين لم يحاولوا الهرب من مصر فغرقوا في شبر مية، إلى أين سيذهبون؟
إلى الجنة؟ أم إلى نار أبرد أو أسخن قليلاً من جحيمنا الأرضي؟!
وإلى أين سيذهب يا مولانا ـ بعد عمر طويل ـ من أحالوا حياة المصريين إلى جحيم، وفتحوا بوابات الموت تقصف الأعمار قبل الأوان؟
ما الرأي في حكومة لا تؤمن بالحقائق البسيطة في الكون، وبينها أن الدنيا تمطر أحياناً؟!
هذه الحقيقة البسيطة تحتم وجود مواصفات للطرق كان معمولاً بها أيام الاحتلال الأجنبي المؤمن، لكن الحكومات “الوطنية” لاتعترف بنواميس الكون، وفي كل عام تعلن دهشتها لأن الدنيا الغدارة تمطر أحياناً.
ومن يرجع إلى أرشيفات الصحف في الشتاءات الماضية، سيجد أن هناك اجتماعات لمجالس الوزراء عقدت خصيصاً لمناقشة “المشروع القومي” للبلاعات، في اليوم التالي لكارثة من كوارث المطر. اجتماعات بعد وليس قبل، فالحكومة لا تقرأ الغيب الذي يأتي أحياناً في شكل غيمة معتدية.
والأمطار كارثة، على الرغم من ندرتها المضحكة، فأقوى موجة مطر لا تقوى على تنظيف أشجار الشوارع من قطرانها. ومع ذلك فهي كارثة!
الأمطار التي تعتبرها كل بلاد العالم فأل خير وبركة، تتحول عندنا إلى شؤم؛ يموت من يموت في حوادث المرور المرتبك، ومن تكتب له النجاة يعود إلى ذويه مجللاً بالوحل بعد أن يقطع عشرة كيلو مترات في ثلاث ساعات.
وتنشر الصحف في كل مرة نفس التقارير عن فوضى الشارع، وانعدام وسائل النقل، وتلتقط صوراً للمستنقعات الموحلة التي تتكون بعد العدوان المفاجيء لغيمة أمطرت لدقائق معدودة.
وفي كل مرة هناك ضحايا بالعشرات، في حرب عبثية لا تعدم الصحف أن تجد لها بطلاً تنشر صورته، لأنه أنقذ عدداً من غرقى أتوبيس انحرف في الترعة، أو لأنه نقل عدداً من الجرحى في الميكروباص المشتعل، فقلل نسبة الخسائر في الأرواح. ودائماً هذا البطل عنوان “لأصالة الشعب المصري” الأصالة موجودة دائماً والبطولة أيضاً، حتى في حرب عبثية بلا مجد، مثل حرب المطر.
ولا أحد يحاكم القادة المهزومين في هذه الحرب، شتاء بعد شتاء، ولا مفتي قطاع خاص أو عام يسمعنا قوله في هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله موتاً.
المقاول الذي ينصب فخاخ الموت في أيام النشف والبلل، من خلال طرق غير مطابقة لأية مواصفات فنية، والمهندس الذي يتسلم هذه الجريمة بوصفها عملاً يستحق أن تدفع الدولة أجره، ورئيس الحي والمحافظ والوزير والأكبر من هؤلاء وكلهم يرون يومياً هذه النصب التذكارية للفساد.
لا أحد يتوقف أمام أحد نصب الخراب هذه ليفتح تحقيقاً ينتهي بسجن يرطب أرواح الراحلين.
وأقول سجناً لا شنقاً، التزاماً بتقليد “الأصالة” لدى الشعب المصري، رغم أنهم يقتلوننا بفسادهم دون ذنب ارتكبناه.
أقول، أو بالأحرى أحلم، رغم علمي بأن أحداً لا يحاسب أحداً، وليس هناك من يشعر بتأنيب ضمير على صرعى معركة الأربعاء والخميس الماطرين.
أقول، وأحتفظ بحقي في ألا أصدق حكومة تعد بالنصر على الفقر، وأنا أراها تنهزم كل شتاء في الحرب ضد غيمة.
ـــــــــــــــــــ
هذا المقال من ٢٠٠٩ هل تغير شيء؟