أنا و برجيت باردو..و كلاب رومانيا!

 

عادت برجيت باردو ” النجمة المحبوبة من جموع الرجال و الكلاب حول العالم الأسبوع الماضي ، في زيارة ليست الأولى ، و في مهمة  تؤكد قدرة البشر على السخرية من بعضهم البعض !

و قد نلت شرفا شخصيا بالانزلاق في ذات الأنبوب الذي مرت منه  النجمة برجيت باردو الشهيرة اختصارا بـ بـ ” ب . ب ” عندما حطت بي الطائرة في مطار بوخارست منذ ثلاث سنوات و كدت أطير من الفرح للمصادفة السعيدة التي جعلتني أتواجد مع ” ب. ب ” في بلد واحد  ، و إن كانت سعادتي  قد تبددت سريعا  عندما خرجت من صالة صغار الزوار فلم أجد في انتظاري  صف الكلاب الضالة الذي كان في استقبال النجمة المحبوبة التي سبقتني إلى زيارة العاصمة الرومانية بيوم  .

***

تكرار زيارة النجمة المشهورة لرومانيا ليس  من أجل السياحة و لا من أجل تصوير فيلم سينمائي ، و  ليس من أجل الاطلاع على آثار ما فعلته شروط صندوق النقد بالمواطن الروماني ،  ؛ بل من أجل الاطلاع على أحوال كلاب رومانيا في ظل الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد الشيوعية السابقة!

و قد كان من الممكن أن نبتلع حكاية اهتمام النجمة المشهورة و أمثالها بالحيوانات إذا قصرت مجال نشاطها الخيري على  الغرب ، باعتبار أننا مؤهلون لتصديق الكذبة الكبرى حول مجتمعات الوفرة التي لم يعد فيها من البشر من يعاني العوز ، على الرغم من أننا نتقبل هذه الكذبة لا بوصفها عملا جادا ، بل كأحد سمات  مجتمع الاستعراض أو مجتمع الفرجة كما أسماه الكاتب الفرنسي ” جي ديبور ” الذي فشل في التكيف معه فكتب عنه كتابا وانتحر .

و  أبناء مجتمعات الوفرة أحرار في ترتيب أولوياتهم كما يشاءون ، لكن أن يمتد نشاطهم ليشمل بلدانا يعاني فيها الإنسان آلام الجوع الكافر و التشرد فهذا ما لا يمكن اعتباره  إلا سخرية غير مقبولة من آلام الفقراء  .و مع افتراض حسن النية ـ من جانبنا طبعا ـ يمكن فهم هذا النشاط بوصفه أحد الطرق المتعددة لإقناع  البشرية بأن الخلاص من آلامها لن يأتي إلا إذا انتهجت أساليب الغرب و أولوياته في الحياة .

  و  يبدو أن الغرب الذي استخدم  في سبيل زرع هذه الفكرة في نفوس الشعوب الأخرى كل ما يملك من أدوات الإقناع ابتداء من الضغوط الاقتصادية ووقف المعونات و افتعال المشكلات و حلها (بتحطيم المعتدي و إفلاس المعتدى عليه) ، إضافة  إلى المفكرين  من عيار فوكوياما ،  لم يبق  أمامه إلا اللجوء إلى السلاح الأخير  المتمثل في بريجيت باردو لإقناع العالم بأن الحل لابد أن يأتي من الغرب ؛ حتى في المسألة الكلبية التي كانت متروكة فيما مضى لظروف كل بلد و قدرته على إنجاب و  إعالة الكلاب !

***

لأن ” الجلوبوليزم ” المعروفة باسم العولمة تتطلب ضرورة أن يشترك الناس في نفس العواطف و نفس الأفكار و نفس الآمال ونفس الأولويات في الحياة ؛ تسافر  بريجيت باردو إلى رومانيا و غيرها من البلدان لإنجاز ما يسميه موريس باريس : ” تكييف الأرواح مع الجماعة ” و بمعنى آخر إعادة بناء النفسية الوطنية في البلاد محل عطفها  لتتوافق مع الحنان الغربي في الحدب  على الكلاب ، و لكي يحب الناس كلابهم  اكثر مما يحبون أنفسهم   !

و من سوء تدبير النجمة المشهورة اختيارها التركيز على رومانيا بالذات ، فالرومانيون في الواقع من أكثر الشعوب حفاوة بالكلاب ، و حتى في هذه الأيام الصعبة يلاحظ الزائر انتشار ظاهرة اقتناء الكلاب من السلالات الممتازة لدى عدد كبير من العائلات ، بل إن “حديقة الحب ” في قلب بوخارست تستخدم من أجل اللقاءات الغرامية الكلبية ، حيث يذهب أصحاب الكلاب إلى هذه الحديقة لتعريف كلابهم بكلباتهم ، ورغم كل ذلك رحبت الصحافة بمبعوثة العناية الغربية التي  جاءت لتعلم الرومانيين حب الكلاب !

و النجمة ربما لا تعرف هذا عن الرومانيين فراحت تبيع الماء في حارة السقائين ، و افتتحت  في زيارتها الأولى   للعاصمة بوخارست ملجأ للكلاب يستوعب خمسين كلبا تعيش الآن في سلام لا تؤرقها مخاوف تأمين لقمة العيش التي تؤرق الملايين من مواطني العالم الثالث و مواطني الشيوعيات السابقة . و قد تساءل البعض  عن معنى أن يستمتع بعطف النجمة المحبوبة خمسون كلبا بينما الشوارع تعج بالآلاف من الكلاب الضالة في طول البلاد و عرضها . وهو سؤال في غير محله و ينم عن حاجة أصحابه إلى دورة مكثفة لتعلم التكيف مع القيم” الجلوبلزمية” التي لا تعترف بشعارات رومانسية  حول مجتمع الكفاية و العدل ، لن يكتب لها أن تتحقق أبدا .

 و ربما جر أمثال هؤلاء  أوطانهم إلى ما لا تحمد عقباه من العقوبات بتهمة الثبات على الأفكار الضالة  المناقضة  تماما لجوهر العولمة ، التي  تقوم أساسا على قاعدة تقديم النموذج  أو ” الصورة ” التي تلهب الحماس إلى المحاكاة  .

و هو بالضبط ما فعلته النجمة المحبوبة ؛ تقيم  الملجأ النموذج و على كل دولة بعد ذلك أن تقيم ملاجئها لعموم كلابها ، وهنا فقط سندرك أن قدرة الغرب على  السخرية  لا تتوقف عند حدود السخرية من الآخرين من أبناء الجنس البشري ، بل تمتد إلى اللعب بعواطف الكلاب الضالة البريئة ـ رغم ضلالها ـ و توقعها في حال من عدم التكيف مع أبناء وطنها من البشر ؛ فالذي يحدث أن البلاد التي تعاني و تكافح من أجل  تأمين العيش لأبنائها لا تستطيع أن تواصل حمل الشعلة المقدسة لرعاية الكلاب ، و في نفس الوقت لا تستطيع أن تجاهر بذلك ، لأن رسالة النجمة المحبوبة شأنها شأن كل الأفكار  العظيمة تجد من يؤمنون بها و يدافعون عنها و يشهرون بمن يخالفها ؛ حتى و لو كانوا قلة شأن كل البدايات .

وهو المأزق نفسه الذي وقعت فيه رومانيا المثقلة بطلبات صندوق النقد؛ تكاثرت الكلاب الضالة في الشوارع و أصبحت تشكل خطرا حقيقيا على البشر ، خاصة في الضواحي ، و حاول محافظ العاصمة حل المشكلة بالطرق العالم ثالثية المعهودة  ؛ إلا أن القلة المؤمنة بأهداف برجيت  باردو السامية هاجمت المحافظ بعنف في الصحافة ـ التي صارت حرة أكثر من اللازم ـ ووصفته بالسفاح ؛ فتوقف المشروع و لا تزال أعداد الكلاب الضالة تتزايد مع إصرار برجيت باردو على زيارات المتابعة لتتأكد من عدم امتداد يد آثمة لأي منها .

***

و..لحسن الحظ فقد اهتدى الرومانيون إلى طريقة للتعامل مع الكلاب ، ينصحون بها من يزور بلدهم : إذا هاجمك كلب لا تخف و لا تفر من أمامه .. ما عليك إلا أن تضرع له في أدب : سيبني ربنا يخلي لك الست .

      وفورا ستترقرق عينا الكلب بالدموع و هو يتذكر ملمس يد الست برجيت على ظهره ، و يمنحك  الأمان بهزة من ذيله .

““““

نشر في القدس العربي عام ٢٠٠٦