فخ منى!

edgar degas

المسافة الزمنية بين إطلاق جسد مطربة في عاصمة عربية وتلقيه في عاصمة أخرى أصبحت تساوي صفرا، وقد ساعد هذا على تفجير حيوية المنافسة في هذا المجال بشكل مذهل. لكن السرعة التي تتبادل بها هذه الأمة الراقصة لحم الإغواء لا تنطبق للأسف على السلع الأشد إلحاحا؛ الكتب مثلا، حتى ولو كانت كتبا عن الجسد!

هكذا تأخر اطلاعي على كتاب منى فياض “فخ الجسد” إلى اليوم رغم صدوره عن دار رياض الريس البيروتية الشهيرة. وقد وصلني عبر دروب متعرجة، لأكتشف بعد القراءة أن طبعته الأولى صدرت عام 2000، ولا أبرئ نفسي بالكامل، ولكن هكذا تجري الأمور؛ إن تعذر على أحدنا الذهاب إلى معرض الكتاب الذي يقام مرة واحدة في بلده، أو ذهب ولم ينتبه إلى كتاب يهمه يكون عليه انتظار مصادفة كتلك التي وضعت كتاب منى فياض بين يدي.

لم يفارقني طوال صفحاته التي زادت على الثلاثمائة إحساس بالفرح وزهو النصر المزدوج على الطغاة والمتطفلين.

ليس هناك ما يُصّعب مهمة الطغاة قدر إشاعة احترام الجسد وإشاعة الوعي بالذات، لكن هذه المهمة الخطيرة وجدت معوقاتها في مساهمات كثيرة تتطفل على ما سمي بـ ” كتابة الجسد” بخفة ومجانية تنطلق من تصور عن الجسد يقصره على وظيفة الإغواء. وقد تناسلت  في السنوات الأخيرة الكتب التي تتخذ من ملفوظ “الجسد” و”الحواس” عنوانا لها لتكسب بضعة قراء في سوق ميتة أصلا بينما تخسر قضية الجسد تعاطف المجتمع الذي استقبل هذه “الكليبات الورقية” بريبة تنسحب على الدراسات الأعمق مثل دراسة مني فياض.

كان الوعي بالجسد أساس مولد الحداثة الأوروبية، وتطور النقابات والتنظيمات التي تناضل من أجل كسب مزيد من وقت الفراغ لصالح الجسد الذي لم يلبث أن حصل على حقوقه السياسية إلى الحد الذي نراه اليوم، كما أن الوعي بالذات كان أساس تطور العديد من الفنون مثلما كان وراء اختفاء الملحمة التي تجعل الذات ظلا باهتا للجماعة والتي أخلت مكانها للرواية، الفن الذي جعل من الفرد موضوعه النهائي.

***

الجسد منحة، مسئولية، وفخ. وقد تكفلت صفحات الكتاب بتغطية هذه الأوصاف الثلاثة، بشكل منهجي أنقذته الطبيعة المزدوجة للكاتبة (أستاذة الجامعة والروائية) فتعانقت المصادر الإنثروبولوجية والسوسيولوجية والنفسية والسياسية مع النصوص الأسطورية والكتابات الأدبية في التراثين العربي والعالمي التي أخذت تعود إليها بين حين وحين وكذلك مشاهداتها اليومية على قلة اهتمامها بهذا الجانب.

من كتابات ابن حزم وابن زيدون وأبي نواس إلى ميرسا الياد وجاستون باشلار وجاك دريدا ومن جسد مارلين مونرو إلى جسد ديانا إلى حركات أجساد المتريضين على كورنيش المزرعة في بيروت تضع فياض صورة لتجليات ونزوات وأسرار الجسد، دون أن تتوقف عند الجسد الجميل، الجسد المعشوق، والجسد المحبوب، بل تتجاوزها إلى الجسد المتألم، الجسد المشوه، الجسد المنتهك سياسيا، والجسد السياسي، أجساد الرؤساء التي تجبر على ابتلاع آلامها وإبدالها بمظاهر الصحة اللازمة لتخويف الرعية في الدكتاتوريات وطمأنة المواطنين في الديمقراطيات!

الجسد فخ في كل الأحوال، لأنه سريع العطب  وسريع الزوال. وقدّر الزوال هذا هو ما جعل قدماء المصريين يلجئون إلى التحنيط بوعي أن جسد الإنسان هو قلبه، لهذا كان تمجيد هذه الكينونة الملموسة، بينما اختلف التعبير عن احترام الجسد في الشرق الأقصى ” حيث شكلت اليوجا تمثل العبادة الشعبية للنسك التصوفي وللتجربة الدينية الفعلية؛ كما شكلت أيضا الشعور بالحاجة، قبل أي شئ آخر، إلى تجربة مجسدة أو حتى فيزيولوجية للمقدس”.

وبالنسبة للصينيين فإن الجسد أغلى موروث عن السابقين، ولذلك فإن أية إصابة تعد إهانة يرفضها واجب البر بالوالدين، ومن شأن معتقد كهذا أن يفسر سر كراهية الصينيين لسفك الدماء وسر تأخر الطب التشريحي الصيني، لكنهم طوروا، عوضا عن هذا،  طريقة للاتصال بالأجهزة الداخلية وعلاج عللها بالوخز بالإبر، من خلال تعرفهم على “هوائيات” هذه الأجهزة المبثوثة على سطح الجلد.

وسينتظر الغرب طويلا حتى يأتي فرويد بمساهمته المهمة التي تلغي تاريخا طويلا من الفصل بين الروح والجسد وقد بنى فرويد نظريته على العلاقة السببية المتبادلة بين الجسد والذهن رغم المظهر الجسدي للرغبات الجنسية، ويرى أن الذهن “يستخدم إمكاناته الرمزية من أجل الانفلات من الجسد وخاصة المناطق الإيروسية منه”.

***

وإذا كنت بدأت هذه الزاوية بتقديم يشبه الاعتذار عن تأخري في التعرف على فخ منى فياض، فهو بالفعل الشعور الذي سيطر عليّ عندما شرعت في قراءة الكتاب، ولكنني لم أصل إلى نهايته حتى تبدل شعوري بنوع من السعادة والامتنان للظروف التي حرمتني منه وقت صدوره، ووفرت لي حرية السير في الظلام التي أنجزت بفضلها كتابي “الأيك”. وربما لم أكن لأكتبه أصلا لو وقعت في فخ منى فياض مبكرا، فليس هناك مجنون يسعى إلى الخدمة إذا كان بوسعه أن يكون مخدوما!


نشر هذا المقال عام ٢٠٠٣ في القدس العربي.