قرب المدخل

قصة قصيرة بقلم: طالب الرفاعي

فان جوخ

جالسٌ والقلق في مكتبي. الاجتماع ينتظرني. رجل الشاي العجوز يطرق الباب، وكعادته يدخل بخطوته الهادئة حتى دون أن أذن له:

“صباح الخير.”

يحمل الصينية الصغيرة. يضع فنجان القهوة وكأس الماء أمامي.

سينسحب كما في كل مرة، حتى قبل أن أقول له شكراً. لكنه بقي واقفاً. أرفع عينيَّ إليه. أشعر بنظرته تأكل وجهي، وحسّه:

“ابني.” تهبط كلمته لتحطّ على المكتب أمامي. سأبقى ساكتاً للحظة انتظره يفصح عما يريد:

“ولدي الثاني.” بلع ريقه. تضايقني طريقته البطيئة في الكلام. لا وقت لدي. الاجتماع ينتظرني. سأستعجله ليقول ما عنده:

“تفضل.”

“ابني يدرس في الجامعة، في كلية الهندسة.”

ليس لدي وقت لسماع حكايات سخيفة.

“في السنة الثانية، ولد ذكي ومتفوق .. الجميع يشهد بذلك.”

أحدّث نفسي بضيقي؛ “قل ما تريد،” ما الذي أوقفه اللحظة أمامي؟ “الاجتماع ينتظرني، وكذلك طلبات المدير العام الجديد العاجلة.. كرهت المدير الجديد منذ رأيته أول مرة. شيء فيه نفّرني منه.”

“أكمل السنة الأولى بتفوق. ولد نبيه.”

عاد يخاطبني. يقف أمامي بجسمه الضخم وتجاعيد وجهه المكدود، ممسكاً بالصينية الصغيرة. لا أذكر أنني رأيته مرة بدونها. شيء غريب؛ “لماذا جاء اللحظة ليتكلم معي؟ سنوات وهو يعمل بصمت.. أنا مدير إدارة شؤون الموظفين، تعوّدت عدم مخالطة العمال البائسين. ما أن أقترب منهم حتى يبدأون بالتعود عليَّ أكثر مما يجب، ويتجاوزن حدودهم، وقد يثقلون عليّ بطلباتهم التي لا تنتهي.

“هذه صورته.” يمدّ يده نحوي بصورة ملوّنه لشاب بنظرة متوقدة وتسريحة شعر مرتبة. ويقول:

“هو يدرس في كلية الهندسة، أخوه الأكبر يعمل مساعد نجار.”

“لدي اجتماع بعد قليل، تكلم بسرعة.” بالرغم مني ارتفع صوتي وأنا أنظر إليه. الاجتماع الكريه

ينتظرني، وهذا العجوز بهيئته البليدة جاء ليضيّع وقتي.

كأن شيئاً من خجل وارتباك ظهرا على وجهه. أنظر إليه فيخرج صوته مشروخاً:

“يمكنني المجيء في وقت آخر.”

“تفضل، تكلم.”

“هو في السنة الثانية..”

“فهمت أنه في السنة الثانية في كلية الهندسة، وماذا بعد؟”

لن احتمل بروده وهدوءه. الاجتماع ينتظرني عليَّ أن أنجز الكثير من الملاحظات.

عاد لسكوته ونظرة الانكسار الكريهة في عينيه. شعرت كأن فكّه السفلي تهدل قليلاً.

“سأطرده.” أسررت نفسي؛ لن احتمل بقاءه متسمراً أمامي.

“آسف أخذت من وقتك.”

“تكلم.”

“كما قلت لك؛ ولدي متفوق أكمل السنة الثانية، دفعتُ أنا القسط الأول من مصاريف السنة الثالثة،” بلع ريقه قبل أن يكمل: “أنا احرم نفسي من كل شيء لأرسل له وأخوته كل ما يمكنني من مال.”

“ولده بحاجة لمساعدة مالية ليكمل دراسته الجامعية.” قلت لنفسي.

“أنت محتاج؟”

سألته بنفاد صبر، وقد طفح الضيق بنبرة صوتي. ظل واقفاً حاملاً صينيته الصغيرة ناظراً إليَّ.

“ليست النقود.”

بعث بجملته ونظرة الانكسار تعلو وجهه.

لن أستطيع التحاور معه أكثر. المدير العام الجديد سيُعنّفني إن أنا لم أنجز ما طلبه مني. سأعطيه ما تيسّر وأطرده. أرسل يدي لجيبي. ظل بوقفته ينظر إليَّ بنظرة لا أفهمها.

استخرج من جيبي بعض الأوراق النقدية؛ “لن أعطيه عشرة دنانير، مؤكد أنه يأخذ من جميع الموظفين. يكفيه خمسة لكي يتركني بحالي.”

أمدُّ يدي له بالورقة، لكنه ينسحب إلى الخلف قليلاً. دار ببالي أنه يرفض المبلغ، وهمست لنفسي؛ “شحاذ وقليل أدب.”

جاءت عيناي في عينيه. شعرت به يضمّ الصينية لصدره ويهزُّ رأسه بعث بصوت عميق:

“مات ولدي، تناثرت أجزاء جسده قرب مدخل الجامعة في التفجير الأخير.”

اهتزَّ قلبي بعنف. ارتخت ذراعي الممدودة، فانزلقت الورقة من بين أصابعي. تمايلت الورقة في الهواء

قبل أن تستقر عند قدم الرجل العجوز. وكما دخل بهدوء استدار ليخرج دون أن ينظر إليَّ.

أسند ظهري إلى الكرسي .. كأن المكان صار أضيق. أشعر أنني غير راغب بحضور الاجتماع.

     طالب الرفاعي

الكويت 9 ديسمبر 2015

==========================

* نُشرت في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 28 ديسمبر 2015