في اليوم الرابع من الغارات الجوية المستمرة، ذهب بركان سحابل إلى السوق، واشترى ثلاثة جرادل متوسطة من الطلاء الزيتى، وفراشي متفاوتة الأحجام. وضع الجرادل في الصالة الصغيرة لبيته المطل على مزرعة صغيرة هي كل ما يملكه هذا الفلاح الخمسيني، الذي يعتقد بأن الإنسان إذا لم يخاتل أقداره، فلن يتمكن من البقاء حياً. لديه هذا المبدأ ويطبقه على مشاكله العائلية وشجاراته الصغيرة مع جيران المزرعة، وأخيراً مع الطائرات الحربية التي قصفت للتو شاحنة للقمح على الطريق بالقرب من بيته.
عندما قرر بركان سحابل ترك وظيفته كجندي في الجيش، كان قد اشترى حقلاً مساوياً لحقله الذي ورثه بعد أبيه. اشتراه من أختيه وحفر فيه بئراً يدوية، وأحاط ملكيته الصغيرة بسياج من الأسلاك الشائكة وقضبان الحديد مثلثة الشكل. وعلى التلة التي كانت في الماضي مسقى لحقلي والده، بنى بيته من الحجر الأسود، وطلاه بطبقة من الأسمنت وطلاء كاكي بلون الأرض. لكنه سرعان ما استبدله باللون الأخضر. حينها كان أول طريق شقه إلى أعلى التلة، يتسع بالكاد لحمار ينقل عليه أكياس الأسمنت ولاحقاً أكياس القمح وأدوات المعيشة مما لا يستطيع كتف بركان أن يحمله. كان ذلك قبل ثلاثين سنة، أما الآن، فلديه شاحنة “ديانّا” متعددة الأغراض في عهدة ابنه الكبير؛ أحياناً يركّب عليها صهريج الماء الذي يسقي به القات في فصل الشتاء، وأحياناً يعيد تركيب حيز الحمل المكشوف.
لبركان علاقة روحية مع الطلاء الأخضر؛ فجدران البيت الخارجية والداخلية مطلية بالأخضر. صهريج المياه الخاص بالشاحنة طلاه بالأخضر، قضبان الحديد المثلثة في سياج المزرعة مطلية بالأخضر، أواني الطبخ، منافض السجائر، مواسير البئر، كؤوس الشاي، كل شيء مطلي بالأخضر. السبب الرئيس والحاضر على لسانه دائماً لتعلقه باللون الأخضر، هو أنه لون الجنة. وبعد أن ترك الجيش صارت المزرعة والعائلة هما اختصاره المطمئن للجنة على الأرض. زاد إيمانه بالأخضر على إثر الطمأنينة التي انتابته بعد سيطرة الحوثيين على المنطقة، وكان يشعر بالزهو لأن مقاتلي الجماعة يحترمونه لمجرد احتفائه باللون الأخضر. لم يكن له أي نشاط قتالي أو استقطابي مع الجماعة، لم يوفر لهم زاداً ولا ماء ولا حزمة قات، ولم يتحدث إليه أحدهم بنصف كلمة لتأكيد موالاته لهم. كانوا يكتفون بالمرور تحت البيت الأخضر ويعبرون عن استمتاعهم بموالاته، بقهقهات عالية وأحياناً بالإشارة إلى أركان البيت والعلم الأخضر الذي رفعه لمزيد من إظهار حسن النية تجاههم. في الحقيقة، زاد بركان من إظهار حسن النية بتجديد طلاء البيت بالأخضر، وفي أوقات الأزمات الخانقة للوقود، كانوا يزودونه بالديزل لأجل مزرعته وشاحنته.
مرت خمسة أيام وهو يسمع قصف الطائرات السعودية على معسكر في منطقة مجاورة، وقبل يومين قصفت شاحنة قمح على بعد مائة وخمسين متراً من منزله. شعر بالخطر يقترب منه، وبدأ يشعر على نحو متزايد بالورطة مع اللون الأخضر، خاصة بعد أن سمع في التلفزيون أن الطائرات تستهدف حتى البيوت التي يُعتقد أن ملاكها من نشطاء جماعة الحوثي. في اليوم التالي لقصف شاحنة القمح، ذهب إلى السوق واشترى ثلاثة جرادل من الطلاء الأبيض. كان عليه أن يشتري مستلزمات معيشية لبيته، لكن الأولوية كانت للطلاء، ثم اشترى متطلبات المعيشة بما تبقى من نقود. أنزل العلم الأخضر ودهن الجدران الخارجية بالأبيض، ونفد الطلاء من آخر جردل بينما لا تزال مساحة متر وثلاثين سنتيمتر في الجهة اليمنى من الجدار الخلفي، مطلية بالأخضر. التفت إلى صهريج المياه الملقى على الجذوع الغليظة لشجرة السدر التي قطعها قبل سنوات للحفاظ على الصهريج من الانبعاجات. تذكر الأمان الغارب الذي كانت تمنحه إياه الشاحنة وصهريج المياه والبئر والمزرعة، وإقباله على الحياة. ظل شارداً أمام المساحة الخضراء، وعيناه تتنقلان بينها وبين صهريج المياه وقضبان الشبابيك والاخضرار الممتد في الحقول. عند هذه اللحظة، تحرك بركان إلى الركن الأيسر في واجهة البيت وألقى نظرة على مزرعته. انتابه خوف من أن تقصف المزرعة أيضاً، وبدأ بالتفكير في الفرق بين مزرعته ومزارع الآخرين. كان لون السياج وغرفة المضخة ومواسير المياه المكشوفة هي أبرز ما يمكن رؤيته من فروق. تساءل بيأس عما إذا كان أحد غيره يلاحظ هذه الفروق! كانت الشمس تغرب من خلف ظهره وهو يتأمل الظلال الداكنة للتل والبيت الأبيض على رأسها. أمعن النظر إلى الظلال التي تزداد دكونة مع سواد الأسفلت واقتراب حلول الليل. اقترب منه ابنه الأصغر الذي كان يعبث ببقايا الطلاء داخل الجرادل الفارغة. وقف بجانبه وهو يفرك الطلاء بين أصابعه. “ليش يابَهْ ما يطلعش بيتنا ملون بالظلال؟” سأل الولد. لم ينطق الأب الحائر بسرعة. أمعن النظر إلى ظلال التل والبيت وتمنى أن يحصل على طلاء بلون الظلال. قرفص إلى مستوى وجه الولد: “قل يارب واحنا نلاقي رنج مثل الظلال.” قال الأب الحائر. ضحك الولد واقترح عليه أن يتصل لأخيه الأكبر لكي يجلب معه طلاء الظلال قبل العودة إلى البيت. تحمس للفكرة، وأخرج هاتفه المحمول المربوط بسلسلة إلى حزامه. اتصل: “جزّع معك رنج لونه بين الأسود والأبيض.” “يعني رمادي؟” استفسر الولد الأكبر. “لا مش رمادي، قل له لون يكون مثل الظلال.”
بعد ساعة اتصل الولد الأكبر ليخبر أباه بأنه لم يجد طلاء بلون الظلال، فطلب منه أن يشتري الأسود والأبيض. “اشتري بالفلوس اللي معك كلها رنج أسود وأبيض.” قال الأب الحائر.
أمضى بركان سحابل الليل بطوله في صالة البيت، وهو يحاول مزج اللونين الأسود والأبيض ليحصل على لون الظلال، لكنه أخفق. اشتركت العائلة كلها في المهمة البصرية التي لا يعرفون هدفها. كانوا يظنون أنها إحدى نوبات هوسه بالطلاء، لكن الولد الأصغر كشف السر؛ “أبي يشتي يغطي بيتنا من الطائرات.” ضحك الجميع منه عدا الأب. أظهر احترامه للكائن الوحيد الذي فهم مخاوفه، لكنه لم يعترف أمام العائلة. استهلك جردلين في تجارب المزج، وقرب الفجر تناوب هو وزوجته وابنه الأكبر على نقل الصغار الذين غلبهم النوم إلى فراشهم. قرر أنه في الصباح سيعيد طلاء البيت بالأبيض والأسود معاً. سألته زوجته عما إذا كان ما قاله الولد الأصغر صحيحاً، فأنكر الأمر مرة أخرى. لم تبد أنها مقتنعة بإجابته لكنها نامت. كان دوي انفجارات بعيدة يهز الأرض من تحتهم، ويختلط بالانفجار الذي مازال في آذانهم منذ استهداف شاحنة القمح.
في الصباح، اقترح على زوجته أن تذهب مع الأولاد إلى بيت أبيها في القرية. لم ينتظر حتى توافق، بل أمر الولد الأكبر أن يقلهم بالشاحنة مع أدوات المعيشة التي اشتراها البارحة. كان كلامه حاسماً لدرجة أن الزوجة شعرت بالخطر المحدق ولم تعدل شيئاً في الخطة. شيع عائلته النازحة من ركن البيت، ثم أخرج جرادل الطلاء، وأعاد دهن الجدران الخارجية وقضبان الشبابيك بالأسود. كل شيء دهنه بالأسود؛ صهريج المياه وجذوع السدر، مواسير الحمام، مربط الحمار، حتى هاتفه المحمول، وساعة يده ذات السلسلة الفضية. وأخيراً صعد إلى سطح البيت، وفرشه بطبقة خفيفة من الطلاء الأسود، ثم خطر له أن يعاود تجربة مزج اللون على السطح. أمضى ساعات الظهيرة تحت أشعة الشمس الحارقة محاولاً الحصول على لون الظلال، لكن ما كان يحصل عليه في كل مرة هو الرمادي. أعاد طلاء السطح بالأبيض، ونزل. نزل إلى البيت ثم نزل إلى المزرعة، وقضى ليلته على سقف غرفة المضخة. كان يسمع أصوات القصف بوضوح، ويستطيع رؤية لمعان مضادات الطيران في السماء. عرف أن الطائرات تقصف على المعسكر في المنطقة المجاورة، وأن مضادات الطيران التي تلعلع من كل مكان لن تسقط طائرة. كانت ثقته تزداد بتفوق الطائرات التي تقصف كل الألوان والأشكال المستطيلة، بينما تنحسر ثقة الجندي القديم بقدرة الجيش الذي كان يوماً ما أحد منتسبيه. ومع مرور شاحنة، أية شاحنة، على الطريق الفاصل بين المزرعة والبيت، يزداد شعوره باقتراب الخطر. بزغ الصباح ولم يغمض له جفن. طوى فراشه من سطح غرفة المضخة ونزل للنوم بين المواسير والبراغي ورائحة زيت المحركات. كانت تلك الرائحة من تفاصيل الأمان الغارب، لكنه مازال يأنس بها. وأثناء استسلامه للنوم، في الرمق الأخير لتفكيره المنهك، لمعت في ذهنه فكرة مخاطبة الطيارين مباشرة. أراد أن يخبرهم بأنه ليس حوثياً ولا جندياً ولا علاقة له بأي من الأهداف التي يقول ناطق “العاصفة” إن السعوديين يبحثون عنها لتدميرها.
مدفوعاً بإيمانه بالتفوق التكنولوجي للطائرات، اعتقد أن بإمكان الطيارين أن يقرأوا أية كلمة يمكن أن يكتبها بخط عريض. نهض للتو وصعد إلى البيت. أخرج جرادل الطلاء الأسود آملاً أن يسعفه ما تبقى في قعرها ليكتب على سطح البيت ما يريد قوله للطيارين مباشرة. كتب من طرف السطح إلى طرفه الآخر: “الرجاء عدم القصف”. ثم رأى أن رجاءه هذا مبهم ولا يتضمن أية أسباب لعدم القصف. بقيت مساحة صغيرة أعلى العبارة وأخرى أسفلها، وكلاهما لن تستوعبا حجم الحرف الكبير الذي يعتقد أن بإمكان الطيارين رؤيته وقراءته بوضوح. نظر إلى قعر الجرادل وقرر أن كمية الطلاء مازالت كافية ليطمس العبارة ويعيد طلاء السطح بالأسود، ومن ثم، الكتابة باللون الأبيض. بعد أن أكمل طلاء أرضية السطح، حاول الكتابة مرة أخرى، لكن رجليه كانتا تأخذان الطلاء الرطب مخلفة بقعاً سوداء. اضطر للانتظار، ونزل للنوم بداخل البيت. استلقى على الفراش، ولم يصح إلا على طرقات متوالية على الباب الحديدي؛ ابنه الأكبر جلب له الغداء من بيت جده، ومعه اثنان من أصدقائه. فتح الباب ولاحظ للمرة الأولى أن طلاءه مازال أخضر. صرخ في وجه الابن لماذا لم يقم بطلاء الباب. “راكنين بكل شي عليّا.” قال متذمراً من نسيانه ومن التعب الذي نال منه. “الحين أنت بعقلك إن الطائرات تقصف البيوت على اللون!” قال الابن الشاب دون أن يتمكن من كتمان استغرابه واستيائه من تصرفات الأب الحائر أمام صديقيه. رد الأب بنظرة استنكار وشرع بالأكل، بينما أدخل الشاب صديقيه إلى مجلس الضيوف.
بعد أن فرغ من الغداء، طلب بركان من ابنه أن يساعده في الكتابة بخط واضح على سطح البيت. “خلينا نستفيد من تعليمك حتى مرة. هات معك رماد.” أضاف وهو يربط هاتفه المحمول بالسلسلة إلى الحزام، وخرج. زاد استغراب الابن عندما رأى هاتف والده مطلياً بالأسود، لكنه لم يعترض. لحق به إلى السطح، وبدأ بركان في تحديد خطوط الكتابة بالرماد. “ما تشتي تكتب بالضبط؟” سأل الولد. “اكتب هنا: هذا منزل مواطن، الرجاء عدم القصف”. قال الأب بغضب من تمكن اليأس منه. لقد انتظر يوماً كاملاً ليضيف “هذا منزل مواطن…” إلى رجائه للطيارين بعدم قصف منزله. وأثناء ما كان الابن الشاب يسحب الفرشاة العريضة على بقايا الرماد، لم تخل حركته من الاستمتاع بالفكرة. استمتاع مجرد من الطمأنينة والركون إلى بضع كلمات متعرجة لتنقذ بيتهم من الصواريخ. لم يتحدث أحدهما للآخر بعد أن أكملا المهمة؛ الابن بقي في البيت مع صديقيه، بينما نزل الأب الحائر إلى مزرعته كالعادة. ومع اقتراب الفجر، وهو مستلقٍ على سطح غرفة المضخة، ورغم سماعه أزيز الطائرات على غير عادتها في الأيام السابقة، غلبه النوم. كان قد فعل كل ما في وسعه لتفادي قصف الطائرات، لكنه ظل يفزع كلما تذكر أن ابنه وصديقيه مازالوا في البيت. آخر مرة فزع فيها كان مؤذن القرية البعيدة يدعو إلى “الفلاح”. نهض من على الفرش الاسفنجي وظل جالساً للحظات يحدق نحو البيت ويفرك عينيه، ثم أزاح البطانية السميكة من فوق رجليه الممدودتين وقام ليصلي.
بعد الصلاة طوى فرشه على البطانية، ونزل للنوم بجوار المضخة، حيث الطمأنينة تختلط بالحنين إلى زمن لم تمر على انتهائه سوى أيام قليلة. كان لا يزال يقاوم سطوة الزمن الجديد الذي باغته قبل أيام فقط، مهدداً بتغيير حياته إلى الأبد، وغلبه النوم مرة أخرى.
بعد ساعة فقط، كانت عدته الزراعية في رفوف وسقف غرفة المضخة متناثرة فوق كومة التراب التي سقطت عليه من السقف بدون أن يعرف سبب سقوطها. لم يسمع أي انفجار، وأخذ ينفض كومة التراب والحديد من فوقه ليتمكن من النهوض. خرج من بيت المضخة ونظر نحو التل ولم يجد بيته.
———————-
لطف الصراري، قاص وصحافي يمني، مولود عام ١٩٧٥نشر مجموعتين قصصيتين الأولى بعنوان «كمن يدخن سيجارة طويلة بنفس واحد» عام ٢٠٠٩ والثانية «الرجاء عدم القصف» عام ٢٠١٥ ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى الكويتية.