كلنا كده عايزين صورة

من حلم الخلود يستمد الناس ولعهم بالصورة وفي خدمة هذا الحلم صار التقاط الصور مهنة ومصدرا لعيش الملايين حول العالم، ابتداء من أولئك البؤساء الذين يتطفلون بكاميراتهم على المتنزهين وانتهاء بمصوري الصحف ووكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية الذين قد يتقاضون جيدا عن عملهم ولكنهم يدفعون أعمارهم في لحظة مقابل صورة خطرة.

وعلى ما بين المصورين من تفاوت في حظوظ الرزق والخطر  فإن أحدا منهم لا ينال من عمله ما يناله مفبركو الصور من خبراء الدعاية، ولعل أكثرهم حظا أولئك الذين يعملون مستشارين في الحملات الانتخابية الأمريكية وفي بلاط الحكام الدبمقراطيين؛ نظرا لما يوليه هؤلاء الموظفون البيروقراطيون من أهمية لصورتهم لدى الجمهور الذي اختارهم لوظائفهم.

  ولم يعد خافيا على أحد أن ابتسامة مرشح الرئاسة الأمريكية لسيدة قبيحة أو مد اليد لمساعدة عجوز أو معوق، كلها صور مصنوعة. ولا ننسى بالطبع الصورة الأكثر ابتذالا:حمل طفل! مع ذلك تأتي تلك الصور بنتائجها المطلوبة وتحمل القتلة إلى قصور الرئاسة!

***

الصور الوظيفية المفبركة تؤدي مهامها بالتمام ولكنها تمضي إلى النسيان باختلاف تام مع الصور الأيقونية التي تستند إلى العفوية الخلاقة وإلى فضيلة الصدق، حتى لو تم اختيار زوايا محددة للنظر إلى الحقيقة و جرى تعمد عرضها على الآخرين؛ فعبد الحليم حافظ لم يكن في الواقع أقل مرضا ولا يتما مما بدا في الصورة، ومارلين مونرو لم تكن أقل بؤسا وجمالا، ولا كانت ديانا أقل هشاشة وانهزاما.

وإذا كان الصدق المطلق أو النسبي كافيا لصنع الأيقونة الفنية والاجتماعية، فالأمر في حالة الزعماء والرموز التاريخية أكثر صعوبة؛ حيث لا تصبح الصورة أيقونة دون أن تتعمد بالنار. لابد أن تقترن الصورة بتضحيات لا يقدر عليها إلا المخلوقين ليكونوا بأحجام صورهم.

في التاريخ السياسي العربي الحديث لم نعرف الصورة الأيقونة إلا مع عبد الناصر. الفعل كان يستدعي الحاجة إلى الصورة والفرح بها، وهذا ما أدركه بحدس خاص شاعر الثورة صلاح جاهين في أغنية “صورة” التي أنشدها عبد الحليم واحتلت مكانة مركزية في أغنيات الثورة وليس عبثا أن تظل إلى اليوم أيقونة صوتية  تثير الحنين إلى عصر ذهبي مضى وإلى مخلص لا يلوح أن ظهوره سيكون قريبا.

الصور البصرية التي يبدو فيها عبد الناصر مثالا للحماس والشجاعة لم تجد إلى اليوم ما يهدمها؛ صورته يوم إعلان تأميم القناة عمدها التصميم على التصدي لجيوش ثلاث قوى استعمارية.

صوره كنقطة وسط بحر من البشر ـ سواء في مصر أو في زياراته العربية ـ  تلك اللقطات  التي لم يدم زمن التقاط الواحدة منها ثوان معدودة كانت تضرب بجذورها في سنوات من الإخلاص.

 ما كان بمقدور أحد التقاط مثل تلك الصور دون رصيد الحب بين القائد والشعب الذي جعل الزعيم محميا وآمنا بين ملايين من البشر الذين لم يعودوا غرباء ولم يعد ظهوره بالشارع بينهم يحتاج إلى تنكيد حياتهم وإرهابهم بصفوف مزدوجة من الحرس واتخاذهم رهائن في إشارات المرور المغلقة لحين مرور الموكب المتعجل.

صورة الزعيم مع أبنائه يلعبون في الرمال على الشاطئ لم يكن بالمقدور التقاطها لو كانت هواية أبنائه اللعب بالملايين. القامة العملاقة بين نهرو وتيتو ما كان لها أن تكون بهذه الاستقامة لو كان  مرتهنا بالسمسرة للنفس أو للمحاسيب، أو كان في ملفاته بـ “السي آي إيه” ما يخشاه.

***

للنهايات أيضا صورها الأيقونية، وقد حجز عبد الناصر بموته آخر أيقونة جنائزية، رغم أن الموت لم ولن يتوقف.

لم نعرف الصورة الأيقونية لشخصية رسمية بعد ناصر سوى مع صدام حسين الذي حجز أيقونته الخاصة  دون أن يموت فيزيائيا، وهذه مفارقته الأولى، أما المفارقة الثانية فهي وقوف أيقونته على الجهة المضادة من خط المجد!

 حجز صدام حسين بعجزه عن رد يد الطبيب الأمريكي العابث بجسده الصورة الأيقونية ليس لشخصه فقط؛ بل لزمن الهوان العربي و تهافت هذا النوع من الحكام الذين يدعون حماية أوطانهم، بينما لم نعد بحاجة إلى انتظار أن تنمو لحاهم لكي ندرك أنهم لا يستطيعون رد الإهانة عن عروشهم، بل عن أجسادهم ذاتها.

لا تستمد الصورة قدرتها على الإيلام من تضاد الوهن الذي تكشف عنه مع صورة الحاكم الإله ـ غير الأيقونية ـ التي كانت لصدام طوال حكمه، بل من تطابقها مع صور أمثاله من الأباطرة المزيفين وهم يلمون أجسادهم تزلفا في جلساتهم أمام مسئول أمريكي صغير.

صورة الدكتاتور العربي تؤكد حاجتنا الماسة إلى أيقونة.