وظيفة بات الجديدة- محطة فيكتوريا- الاثنين 7 ابريل
سيمونتا انيللو اورنوبى
ترجمة: نجلاء والي
فصل من ترجمة لم تنشر بعد لرواية «رياح عاصفة» للإيطالية سيمونيتا أنيللو أورنوبي، وهي تحكي عن أسرة إنجليزية مثالية تنقلب حياتها بعد اتهام الأب بالتحرش بابنته. هذه هي الرواية الثانية التي تترجمها نجلاء والي للكاتبة ذاتها، بعد «قاطفة اللوز» التي صدرت عن قطاع الثقافة بأخبار اليوم. وتتميز كتابة سيمونيتا بالمزاوجة بين تشويق الحبكة البوليسية والعمق.
سد زحام الموظفين الذاهبين الى أعمالهم منافذ الخروج في محطة فيكتوريا. فخرجوا من عربات القطار واندفعوا نحو باب الخروج.
تنفست بات بعمق كيلا تصاب بحالة هلع بعد ان سحقتها الأمواج المتلاحقة من البشر عند حائط مدخل المحطة.
شعرت بالندم لقبولها عرض الوكالة بالعمل في مكتب محام يقع في ضاحية خارج المدينة، فبدلا من ركوب الحافلة رقم 11 التى تقلها في عشرين دقيقة إلى ستراند حي المحامين، الآن يجب أن تصارع مع الموظفين كل صباح لتصل إلى رصيف القطار الذي يقلها إلى بريكستون.
تذكرت كلمات رون الرصينة في الليلة الماضية بأن العمل الجديد مربح وأقل إجهادا من عملها الحالى.
سيمر الاسبوعان بسرعة وبعد ذلك يمكنها العودة للعمل في مكاتب المحاماة في سيتي حيث عملت بمكاتب المحاماة منذ حصولها علي الدبلوم كسكرتيرة مؤقتة
تشجعت بات واتخذت طريقها عكس اتجاة القادمين . فكان نهر المسافرين الصامتين ينشق أمامها لتعبر وبعد ذلك يغلق خلف ظهرها .
استطاعت بات بعد جهد اللحاق بالقطار والقفز فيه قبل تحركه
جلست بات بجانب النافذة، وجعدت أنفها مشمئزة فقد امتلأت العربة بالقمامة وغطت الزجاجات وعلب الصفيح، و الجرائد، وأكياس الورق مقاعد القطار
سار القطار بمحاذاة محطة كهرباء باترسيا برزت فجأة كاتدرائية كبيرة مبنية بالطوب الأحمر ذات أربع قباب بيضاء مرتفعة تغطي الأركان الأربعة، ثم زحف القطار ببطء فوق الطريق الحديدي ملامسًا المباني الصامتة علي الجانبين وكأنها مسلات الماضي الصناعي في لندن، وقد هجرها ساكنوها. اختلفت درجات تدهورها، حيث نمت فوق الأسطح والجدران حشائش و نباتات برية وزجاج مكسور، حوائط سوداء متآكلة، انفصلت عنها كتل من المحارة. فنانون مغامرون لا يآبهون للخطر، تسلقوا تلك الحوائط ليغطوها برسومات ذات الوان يانعة.
كان القطار يعبر منطقة سكنية امتدت حدائقها المهجورة وأفنيتها المهملة. كانت الابنية تتفاوت في الارتفاع، منها المتلاحقة ذات الارتفاع المنخفض والسقف المدبب وبينها بنايات شعبية مسطحة الأسقف قبيحة .
تساءلت بات مرة أخري لماذا قبلت العمل في بريكستون.
رجل يتبول أمام عمود إنارة من المعدن لا يعبأ بالآخرين وهم لا يعبأون به. حولت بات نظرها عنه وعبرت السوق بسرعة. كان عمال «مجازر حلال» يغسلون الرصيف أمام المحل، وقد تدلت من الخطاطيف الضخمة الدجاجات مقيدة الأرجل، بجلدها المحبب الذي تتناثر عليه بقايا الريش المنتوف مثل القش، وقد تدلت أعرافها حتى لامست الطاولة. بجانبها مجازر الجاميكان تعرض بفخر أرجل الخنازير وذيولها الحمراء. كان الناس يعبرون السوق بهوادة. سيدة ترتدي معطفًا ازرق زاهيًا وحذاءًا بكعب عال تجر خلفها حقيبة سفر ضخمة تتأرجح فوق الحصى غير المنتظم، كانت تتعثر في خطواتها وتوشك أن تقع ثم تعاود السير بسرعة.
وقفت مثل بات عند إشارة مرور بركستون، سبقتها بات وهي تسرع الخطى نحو مكتب وزين المحامي بينما الأخري تتبعها وهي تزفر وتغمغم .
دقت بات الجرس وانتظرت أمام الباب، تبعتها المرأة، وقفت خلفها تماما. علي الرغم من أثر الجرح الذي يشوه وجنتها وعنقها إلا أنها لاتزال تحتفظ بمسحة من جمال قديم .
صرخت المرأة في الصوت المنبعث من الإنتركم : أنا مسز أنسيل، نحت بات جانبا وسدت الباب بحقيبتها، أدخليني، أريد إقامة دعوى، لدي آثار جروح حول الفم وشفتاي منتفختان.
رد الصوت : يجب أن تتظري موعد فتح المكتب، لم تحن الساعة التاسعة والنصف بعد.
- – قلت لك ادخليني! لقد كاد يقتلني بالامس علا صراخها أكثر، أدخليني! أدخليني! وعاودت التقاط أنفاسها.
استغلت بات ذلك لتهمس باسمها في الإنتركم. فتح الباب فجأة
حركت مسز أنسيل حقيبتها لتفسح لها الباب دون تذمر وبطريقة فجة. نظرت بات إلى المرأة قبل أن تلج من الباب وقد أسندت ظهرها إلى الحائط وبدا عليها الاستسلام تنظر إلى بعيد وقد تعلقت يداها بمقبض الحقيبة.
شارون، شابة سمراء طويلة ذات عينين واسعتين سوداوين:
– أنا سكرتيرة المحامي بوتس، اصطحبت بات إلى المطبخ لتناول القهوة وشرحت لها انهما سيقتسمان مكتب المحامي الذى يكره الكومبيوتر لذا فهو يحتاج إلى سكرتيرتين . شارون تتولي ملفات العملاء بترتيب الحروف الأبجدية من حرف الألف إلى حرف اللام، وبقية الحروف من نصيب بات.
كانت شارون تنظر أثناء حديثها إلى أظافرها الطويلة الملونة الوأحد تلو الآخر ثم نظرت إلى بات و قالت: ستيف يعمل في خمس مجالات وأخذت تعددها بأصابعها:العنف المنزلي، حقوق الزيارات، التبني والوصاية” في الواقع عندما يأخذون منك الأبناء، فان معظم العملاء يجدون من يدفع لهم
بعض العملاء سخفاء مثل مسز اينسل ولكن معظمهم يمكن السيطرة عليهم
صمتت شارون وقد لاحظت شرود بات، بدأت تنقر بأصابعها فوق إبهامها لتتأكد من ثبات الأظافر المستعارة ثم ندت شفتاها عن ابتسامة مضيئة قائلة : العمل كثير ولكن لن يصيبك بالملل، اتمني لك التوفيق
بات، والفضول يقتلها، سألت: من هي مسز أنسيل؟
سيده تتعرض لسوء المعامله من زوجها مثل سيدات كثيرات، إحدى موكلات المكتب، عميلة مميزة وليست فقيرة. فقد حققت مكاسب كثيرة من بيع الملابس بالمراسلة ثم تعرفت إلى شاب يصغرها في السن في كيتجستون وتزوجت به، تعوله ويضربها دائما. تأتي إلينا لرفع دعوى ثم تعود إليه إضاعه لوقتنا ومالها. تحرك شارون اظافرها أمام بات: ما رأيك بأظافري الجديدة.
يقع المكتب في غرفة واسعة مربعة في الطابق الاول لها نافذة تطل علي الشارع وباب يصلها بحجرة الانتظار، وقد علت حوائطها بطاقات صُفت فوق ارفف طويلة انثنت من ثقل وزن الكتب وعلب الكرتون مدون فوقها أسماء العملاء بالقلم الفلوماستر. وثلاث مكاتب في منتصف الحجرة: مكتبان وأحد في مقابل الآخر للسكرتارية تتعامد مع مكتب آخر أكبر للستيف. كانت نباتات السرخس تملأ واجهة النافذة. ستيف يحضرها من منزله، هو الوحيد الذي يعتني بها لا تسقيها بالمياه حتي لو كانت جافة، إنها الشيء الوحيد الذي يجعل ستيف يفقد صوابه!
دخل ستيف في هذه اللحظة، رجل يصعب تحديد عمره، ممتليء، أصلع قليلا، يرتدي بدلة غامقة ورباط عنق بنفسجي، كان في عجله من أمره، فقد كان لديه موعد جلسة. تحدث فورًا إلى بات وأعطاها تعليمات سريعة، كانت بات تدون كل ما يقوله وترفع عينيها إليه كل حين، كان يتكلم بثقة وثبات مما طمأنها. لم يغلق الباب المؤدي لصالة الانتظار و كان يراقب ما يحدث داخلها. كان هناك ذهاب وإياب وحركة مستمرة من المحامين الشبان الذين يستعدون للذهاب إلى المحكمة، و عملاء ينتظرون، بعضهم بصبر والبعض الآخر بدا عليه القلق والعصبية، وطفل يبكي في عربة أطفال. جلست مسز انسيل مفرودة الظهر أمام باب المكتب، كانت تنظر إلى ستيف في تضرع إلا أنه لم يعرها انتباها وأكمل حديثه مع بات، ومسز انسيل تغير من أوضاع جلستها فتارة تضع ساقا فوق الأخري أو تسوي ساقيها الواحدة بجانب الأخرى، ترميه بنظرة ازدراء لا تلبث أن تتحول إلى استعطاف وتوسل. أعطى ستيف شريطًا صوتيًا لبات لتفريغه في الظهيرة. استعرض بسرعة المراسلات . نهض فجاءة واستدعي مسز انسيل . نظرت إلىهما شارون ثم واصلت العمل أما بات فأنصتت إلى المحادثة كلها
استطاع ستيف أن يصل إلى تلخيص المشكلة بعد أسئلة قليلة محدده وأبلغ موكلته برأيه قائلا:
لدينا ما يكفي من الوقائع لإقامة دعوى عاجلة و عددها لها: سوابق عنف، اعتداء حديث، آثار ضرب واضحة، خدوش وجروح عميقة، وجود سكن بديل للمعتدي
نظر ستيف إلى مسز انسيل في عينيها وسألها:
هل ترغبين حقا في اقامة دعوى ضد زوجك؟
أومأت برأسها موافقة . عندئذ طلب منها أن تذهب إلى الطبيب فورا كي تحصل علي شهادة وتعود في الساعة الثانية والنصف.
يمكنك ترك الحقيبهٍ، لن يسرقها أحد. قال لها ستيف و هو يصطحبها إلى الباب
التقط حقيبتة وبعد تحية سريعه انصرف إلى المحكمه.
كانت تنبعث من كوالتي كافية رائحة الزيت المقلي، لم تكن بالمشجعة.
قالت شارون لبات وهي تدفع إليها ورقة مبقعة بالدهون تحوي قائمة الطعام، الغذاء اليوم علي حساب المكتب، تقليد الترحيب بالموظف الجديد، منصوص عليه في لائحة المكتب.
تبعت بات نصيحة شارون وطلبت فطائر محشية علي طريقة جاميكا، بانزورتي محشيه باللحم المتبل و سلطة.
كانت شارون تدير دفة الحديث، تحدثت عن ريئسهما، وعن العملاء ثم عن الرجال، تعرف كثيرين ولكن لا يصلح منهم أحد كزوج. رجل محترم، بمرتب معقول وعمل ثابت ويرغب في تكوين أسرة، من الصعب أن تجديه في هذه الأيام، لكني لن أقبل أقل من ذلك وإلى أن أجده أقضي الوقت في النوادي والحفلات، ضحكت وأنت؟
تحدثت بات عن رون الذي تعرفه منذ سنوات، يقضيان نهاية الاسبوع والإجازات سويا ولكن لا ينويان الزواج. رون مطلق يكبرها بعشر سنوات لديه ابن كبير وهي لا تفكر في الإنجاب، قطعتها شارون أما أنا فأرغب وعلي أن أسرع. لا يزال لدي وقت! أدركت بات أنها لم تكن لبقه واحمر ووجهها. كانت شارون تتحدث عن ستيف بحميمية وعن العملاء دون ذكر ألقابهم . كان من الواضح أنها تحب عملها وتفخر به.
الغالبيه العظمي من العملاء عاطلون ممن لديهم منازعات فيما بينهم أو مع مكاتب الرعاية الاجتماعية للحضانة الأطفال . ستيف يمثل أيضا الأطفال عندما ترغب الرعاية الاجتماعية في وضعهم تحت الوصاية أو إلغاء وصاية الوالدين وربما عرضهم للتبني. يكلف ستيف بالعمل الوصي القانوني للطفل وإذا لم يكن تم تعيينه بعد، تكلفه المحكمة نفسها و يدفع أتعابه مكتب دفاع المحكمة، ثم هناك النساء اللاتي يتعرضن لسوء المعاملة من الرجال. ما الذي يدفع امرأة تعاني من سوء معاملة زوجها إلى الرجوع إليه؟ الخوف، الخوف من الوحدة، من الفقر، من القتل.
فقط في لندن قتلت أربع وأربعون امرأة
أردفت شارون:
الناس التي تعاني من العنف الأسري تتقبله كما لو كان من الأمور العادية وتفقد الثقة في قدرتها.
وهل مسز أنسيل واحدة من هولاء؟
وثبت شارون في مقعدها عند سماع اسم العميله ينطق هكذا في مكان عام، ساوت تنورتها الميني ووضعت ببطء ساقيها الملفوفه الواحده فوق الأخري.
أشك، قالت بصوت خفيض وكأنها تنبه زميلتها إلى قلة حصافتها
إنها امرأة تثير الخوف، تابعت وهي تعبث بسوراها أعتقد أنها تعود إلىه من أجل الجنس، ثم بخبث: لقد رأيتهما معا ذات مرة، إنه رجل حقيقي .
بدأت شارون في تناول شرائح سمك القد المقليه والبطاطس، كانت تمسك بها الواحدة تلو الأخري بين أظافرها الملونه وتنظر إلى الشاب الواقف خلف طاولة المطعم: وأيضا هذا لابأس به.
كان ستيف ينتظرهما بالمكتب فقد تأجلت الجلسة فقد نسي أخصائي الرعاية الاجتماعية تاريخ الجلسة، ومواعيد تقديم المقترحات الجديدة الخاصة بمصير ستيفن، فأجل القاضي عودته إلى المنزل لحين التحقق من قدرة مافيز كلارك علي رعايته كانت الجلسة النهائية ستقرر إما عودة ستيفين لأمه أو عرضه للتبني .
لقد طلبت من مافيز المرور كل يوم بمكتب الرعاية بعد ترك ستيفين بالحضانة، هي مقتنعة أنهم ينتظرون عودتها للتناول المخدرات لطرح مسألة التبني لذا قاموا بتأجيل الجلسة، أخذ ستيف في تناول الساندوتش. كانت بات تسمع ولاتفهم و تود أن يكون أكثر إسهابا معها عند إعطائها تعليمات بخصوص العملاء. كان ستيف يقضم الساندوتش ببطء ويشرد بذهنه بين الفنية والأخري.
ثم قال لشارون: لا تنسي أن تعطيها طعام الإفطار إن بدا عليها الجوع.
رد علي التليفون، وحدد موعدًا في الساعة الثانية والنصف
شعرت بات أن من واجبها أن تنبه إلى ميعاده مع مسز أنسيل.
لقد أخذت معها الحقيبة، رد ستيف وقد غرق في أوراقه.
شعرت بات بالاهانه وكأنها طفل تعرض للتوبيخ لذنب لم يرتكبه.
فكرت ان تنهض وتنصرف ثم سيطرت علي انفعالاتها، الأمر لا يعدو أسبوعين وينتهي.
واصلت الضرب بسرعة فوق لوحة المفاتيح، دون أن تنظر إليه إلا أنها شعرت بنظرات ستيف:
لقد غيرت مسز انسيل رأيها، اليوم الذي ستترك فيه الحقيبه سيكون اليوم الذي سترفع فيه الدعوى.