عام ١٩٦٣ نشر رءووف سلامة موسى كتاب أبيه «الصحافة حرفة ورسالة» مناشدًا القراء اعتبار ما نشره الطبعة الأولى، مشيرًا إلى نزاع مع صاحبي دار صحفية حول طبعة سابقة صدرت في نوفمبر ١٩٥٨ أي بعد وفاة سلامة موسى بشهرين، بسبب ما اعتبره نشرًا مشوهًا للكتاب.
يبدو الكتاب كمعظم كتب سلامة موسى، كان في الأصل مقالات في مجلات وصحف، لكن تواريخ النشر الصحفي ليست مثبته بالكتاب. وإذا أخذنا بتاريخ النشر الأخير، فبيننا وبين الكتاب الآن ٥٣ عامًا، لكنه يناقش راهن الصحافة بشكل مدهش، وهذا يحُسب من جهة لصالح بصيرة سلامة موسى، ومن جهة أخرى ضد الواقع المهني المتردي في الصحافة، وضد الحالة السياسية التي أنتجته.
في فصل بعنوان «كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية» يتحدث عن حكومات الاستعمار والاستبداد التي مارست ألوانًا من الإفساد للصحافة لم تعرفها أمة أخرى «من ذلك مثلاً المصروفات السرية التي كانت ترشو بها الوزارات المتعاقبة الصحفيين حتى ينكروا الحق وينشروا الباطل» ويتعرض كذلك لحصص الإعلانات التي تنشرها الوزارات ويتحكم فيها مدير مطبوعات يغدق على الصحف التافهة العميلة ويخنق الصحف الوطنية الجادة، التي تفلس بعد بضعة أعداد من صدورها، وقد مات لسلامة موسى نفسه ما يقرب من العشر مجلات وصحف، بينما تستمر الصحف الموالية، ويثرى محرروها (التافهون، بوصف سلامة موسى)!
وبعيدًا عن هذا الإفساد السياسي، يكتب الصحفي المفكر في صلب الحرفة، ويقول عن مستقبل الصحافة كلامًا مدهشًا، لم يزل صالحًا لإنقاذ المهنة من مأزقها الحالي، فهو يتحدث عن التوازن بين الخبر والمقال والتحليل المعمق، ويميل إلى جانب العمق، لأن الصحيفة تعرضت لمنافسة الراديو والتليفزيون القادرين على ملاحقة الأخبار على مدار الساعة.
وإن كانت طبيعة الوسيلتين قد هزمت الصحيفة في مجال الخبر، فطبيعة الجريدة توفر للقارئ ميزة حرية التلقي، فهي تمكنه من إرجاء قراءتها للحظة المناسبة والمكان المناسب، ومن الصفحة التي تروقه أكثر، لذلك يقترح أن تبدأ الصحافة بالتركيز على العمق، حتى ترفع إلى مقام الأدب. ويسوق واقعة تتعلق بصحيفة كريستيان سينس مونيتور الأمريكية، عندما كتب عنها ناقد إنها قد انحط شأنها لأنها لم تعد تعبأ بالآداب والعلوم. ولم ترد الجريدة بالإنكار، بل عمدت إلى عددها في اليوم ذاته وجمعت ما نشرته في هذا العدد وحده، وأعادت إصداره في كتاب مستقل يحوي أكثر من مائة صفحة. ويعلق:«ما أجدرنا نحن الصحفيين المصريين بأن نلتفت إلى المرتبة العالية التي بلغتها الصحف الأوروبية والأمريكية، أو على الأقل بعض الممتاز منها». ويختتم «أحيانًا أستسلم لخيال عابر وأنا أسأل نفسي: كيف تكون حال هذه المجلة أو هذه الصحيفة إذا أسلمنا رياسة تحريرها للطفي السيد؟ لطفي السيد مترجم أرسطو طاليس؟ أجل ..ولم لا؟ لا نستطيع أن نحتقر هذه الآراء إن كنا عقلاء».
يكتب سلامة موسى هذا الكلام، رغم أن مقالاته شخصيًا ومقالات طه حسين، والعقاد، وغيرهم من أعلام الأدب والفكر كانت تزين صحافة تلك الأيام. ويبدو أنه كان متحمسًا لنهضة صحفية في ظل حكم وطني وصحافة حرة، لكنه لم يعش أثر نكسة التأميم ليتأكد من تفوق الوطني على المحتل في القبض على روح الصحافة، ولم يقدر له أن يرى انحدار الصحافة، وتحديات المنافسة التي واجهتها بعد الراديو والتليفزيون، والتي قابلتها باطمئنان وفراغ قلب، لأن المصروفات السرية صارت علنية، وهذا أمر شرحه يطول.