تموت السياسة فيقع ثقل جسدها على اللغة التي تموت بدورها!
وأحد الموتين يدل على الآخر؛ فإن عرفت حال السياسة في بلد يمكنك أن تعرف حال اللغة دون حاجة إلى الاطلاع على لغة البلد، والعكس بالعكس، إن عرفت لغة البلد ووجدت فيها كلمات زلقة مثل: القيادة السياسية، الأجهزة السيادية، والجماعة الصحفية، تعرف حال السياسة.
والاصطلاح الأخير “الجماعة الصحفية” هو الأكثر زلاقة بين اصطلاحات الموات السياسي؛ فبينما يشير تعبير القيادة السياسية إلى شخص بعينه، ويشير تعبير الأجهزة السيادية إلى قبضة الأمن الشرطي والعسكري، يشير تعبير الجماعة الصحفية في أفضل حالاته إلى مجرد أمنية، وفي أسوأها إلى لا شيء.
يبرز المصطلح في لحظات الجدال حول هذه المهنة العريقة الآفلة، كهذه اللحظة التي استدعاها الصدام بين النقابة والأمن ثم قوانين وهيئات تنظيم الإعلام. يعتصم الفرقاء بتعبير “الجماعة الصحفية” التي لم تعد قائمة على أرض الواقع، بعد 56 عامًا من قرار عبدالناصر بتأميم دور الصحف التي كات قائمة في عام 1960.
ولم يكن قرار نزع ملكية الصحف من ملاكها، وإلحاقها بالدولة وحده المشكلة في حقيقة الأمر، حيث يمكن للدولة الديمقراطية أن تمتلك الصحف دون أن تعتدي على روحها، ولدينا هيئة الإذاعة والتليفزيون البريطاني كمثال. كان التأميم الأسوأ هو تأميم السياسة في المجتمع، وهذا هو الوضع الذي لا يمكن للصحافة أن تعيش في ظله.
استمرت المهنة زمنًا بقوة الدفع الذاتي مثل سيارة تهبط منحدرًا، كانت الحركة مستمرة، ويبدو كل شيء على ما يرام، إلا أن المحرك كان معطلاً، والتخريب مستمر بوتيرة منتظمة. صيغة الملكية الغائمة للشعب، انتهت إلى أنها ملكية النظام، ملكية الرئيس تحديدًا في زمن ناصر والسادات، ثم ملكية “الأجهزة السيادية” زمن مبارك ولليوم. النظام (ممثلاً في فرد أو جهاز) هو الذي يعين رؤساء التحرير، ويترك لهؤلاء الحراس مسئولية استبعاد المعارضين وتوجيه دفة الصحيفة في الاتجاه الذي يريده النظام.
وليس في إعادة ما جرى أية إفادة، لكن الخلاصة أننا أمام حقيقة انهيار المستوى المهني، واختفاء مفهوم “الجماعة الصحفية” من الواقع؛ فمقابل صحفي ينتمي للمهنة هناك عشرة ينتمون لمصالحهم مع الحكومة ورجال الأعمال، وهناك عدد كبير من الصحفيين عمله الأساسي في التليفزيون، خطيبًا أو مقدم برامج أو معد. وهذا لا يحسمه استجلاب قانون للصحافة من فرنسا أو بريطانيا بل مناخ سياسي معتدل.