وبينما تنقسم المؤسسات الصحفية والإعلامية المصرية بين مستسلمة لموتها ومستسلمة لوهمها، يقوم منتدى المحررين المصريين بمجهود جبار لبعث الروح في مهنة الصحافة، عبر نشرات مثيرة للإعجاب تضع الصحفيين في إيقاع العصر وتطلعهم على الحلول التي تلجأ لها مؤسسات إعلامية كبرى من أجل توفيق أوضاعها مع تحديات الميديا الجديدة، هنا إحدى هذه النشرات:
رئيس تحرير واشنطن بوست:
الثقة التحدي الأكبر أمام الصحافة الأمريكية
نتجه نحو الصحافة الرقمية وسنكون مخطئين إن لم نفكر في النسخ الخفيفة للأجهزة المحمولة
يقول مارتى بارون، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة “واشنطن بوست” التي تأسست عام 1877:” لا شك أن الثقة هي التحدي الأكبر لدينا، نحن قلقون باستمرار حول الموارد المالية والأدوات، والتعامل مع وسائل الإعلام الاجتماعية، وكل هذه التحديات تتضاءل بالمقارنة بتحدي الثقة”.
حسب المسؤول عن تحرير واشنطن بوست التي يختصرها جمهورها بكلمة ” WaPo” فالثقة هي مشكلته الأكبر، وهذا يحدث في واحدة من أكبر الصحف في العالم، والتي توزع يوميًا فوق 600 ألف نسخة، ومارتن من الصحفيين المخضرمين، ومع ذلك لديه اهتمام واسع بالتطورات التقنية وتأثيرها على الصحافة، ويتولى رئاسة تحرير واشنطن منذ عام 2012، وقبلها كان رئيسا لتحرير بوسطن جلوب لمدة عشرة أعوام.
وخلال حوار نشرته قبل شهر الرابطة الدولية للصحف وناشري الأخبار ومقرها في باريس، كشف بارون عن رأيه في الكثير من النقاط المتعلقة بواقع وتحديات مستقبل الصحافة، وهو ما سنعرض بعضه في هذا العدد من “النيوزليتر”.
والملاحظ في هذا الحوار أن أغلب التحديات أن لم تكن كلها تتطابق مع ما تعيشه الصحافة المصرية من أزمة، تستدعى فتح نقاش مهني شامل لإخراج المهنة من عثرتها.
ما الذي يخفيه المستقبل لمهنة الصحافة؟
من الواضح أننا نتجه نحو الصحافة الرقمية، وسنكون مخطئين إن لم نفكر في النسخ الخفيفة للأجهزة المحمولة، فالأمر لم يعد يقتصر على أجهزة الكمبيوتر فحسب، والكثير مما نفعله هو الانتشار على منصات التواصل الاجتماعي، ويجب أن نسعى بكل السبل للوصول للمستخدمين.
ومن الضروري أن ندرك أن التعامل مع الصحافة الرقمية مختلف تمامـًا، كما تختلف الصحافة التليفزيونية عن المطبوعة، فهي تستدعي شكلاً مختلفـًا من أشكال التواصل، ومجال مفتوحًا للحوار، حيث صوت المحرر أكثر وضوحـًا، ويمكن التعديل عليه ونقده.
والتكنولوجيا هامة للغاية لنجاحنا، فعلينا أن نسيطر على تقنياتنا ولا يمكننا أن نتخلف عن الأخرين، ولا يمكننا كذلك أن نكون مجرد تابعين لتقنية كبيرة، موقف التابع لم يعد مقبولاً هذه الأيام!
مع كثافة المحتوى المُقدم يوميـًا، كيف يمكننا التميز في عملنا؟
بشكل ما أصبح المحتوى سلعة وهذا جزئيـًا خطؤنا، فنحن لا نعمل على تطوير قنوات للوصول للقراء. ما يُميز الصحافة التقليدية ومحتواها هو أننا كنا نبحث بشكل أعمق فيما وراء الخبر، كنا نحاول معرفة سبب حدوث شيء ما، وما هي عواقبه، ومن الذي تأثر به، وليس الحقائق الأولية فحسب.
إن كان كل ما نفعله هو تقديم الحقائق الأولية، فلن نقدم أي شيء يُميزنا عن غيرنا، علينا البحث أعمق، فهذا بالنسبة لي هو تعريف الصحافة.
علينا أن نتجه بشكل سريع نحو هذا الاتجاه، الذي يمثل جوهر الصحافة وما تعنيه كخدمة حقيقة للجمهور، وليس في أي اتجاه أخر. هذا ما يريده الجمهور منا، وهذا لا يعني استقصائيات مطولة فقط، بل محاولة الوصول لمستوى أعمق في كل يوم وفي أغلب القصص.
كيف يمكننا فعل ذلك، بينما سرعة النشر والتحديث هي السائدة في كل غرف الأخبار؟
لدينا مسئوليات عديدة لم تكن موجودة من قبل، فالجميع يتحول إلى الخدمة الرقمية بجانب النشر الورقي. وبات علينا التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، وملفات الفيديو، وملفات رقمية تفاعلية، وهذا كم عمل هائل يمكنه أن يلهينا عن مسئوليتنا الأساسية.
والسرعة هنا مهمة للغاية، فالجمهور يتوقع الحصول على المعلومات على الفور، ولكني لست متأكدًا من ذلك يمنعنا من البحث والتوثيق بشكل أعمق، فلست مغرمـًا بفكرة إنتاج كم كبير من القصص الإخبارية مهما حدث.
القصة الإخبارية الذكية تجذب عددًا أكبر من القراء، ما يضمن -بحسب خبرتنا- نسبة عالية من الزيارات للموقع.
التركيز الأكبر في الصحافة الآن على تقديم الكم الأكبر من الأخبار وبسرعة، بغض النظر عن ما المناسب للنشر، وما الانطباع الذي يتركه عنك، أو حتى الشكل النهائي للخبر!
مع زيادة المعايير المطلوبة في غرفة الأخبار، كيف يمكن للمحررين الموازنة بين الجودة والكم؟
هناك اقتباس أحبه لجيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لموقع أمازون (ومالك واشنطن وبست الآن)، يقول فيه: “لدينا شيء مفيد يحفزنا على العمل، وعلينا أن نستمر في القيام بذلك، لأننا إن لم نفعل سيشعر القراء أننا تخلينا عن مهمتنا، ولن يروا أننا مؤسسة لديها غاية، كما سيشعر العاملون في المؤسسة بأن ليس لديهم هدف، وإذا لم يكن لدينا شعور بغايتنا وقيمة لهدفنا، لن يكون لدينا عمل ناجح”.
هذا هو الأساس المنطقي الذي يقف خلف العمل، يجب أن يشعر جمهورنا ويرى في كل يوم أننا نحاول أن نفعل شيئـًا هامـًا ومميزًا يقدم لهم، شيء لا يستطيع أن يفعله غيرنا، إن لم يروا ذلك، فمؤكد سيتخلون عنا، لذلك كانت ثورتي على المحتوى المكتوب، لأنني أؤمن بأن كلمة صحافة لها معنى وهدف.
كيف يمكننا أن نبرز أهمية الصحافة؟
كصحفيين، لا يمكن أن نسمح لأجندة المؤسسة أو المؤسسات التي نقوم بتغطيتها أن تسيطر علينا، علينا أن نضع في اعتبارنا دومـًا “ما هي الاهتمامات اليومية للجمهور؟”.
أحد الوسائل لفعل ذلك هو مراقبة ما يتحدث عنه الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي عن قرب، فمن المهم حقـًا متابعة ما يحدث في سائل التواصل الاجتماعي باستمرار، وادراك أنها المكان الذي تتحدث فيه الجماهير عما يهمهما. وأحيانـًا لا تتطابق تلك الاهتمامات مع اهتمامات المؤسسات، وإن كنت تريد دليلاً على ذلك، فانظر للانتخابات الرئاسية الأمريكية!
الكثير من محتوى وسائل التواصل الاجتماعي وهمي وعنصري وخاطئ، هل لنا دور إزاء هذا؟
هذا أحد أبرز الجوانب المتعلقة بالبيئة الإعلامية، وهو نشوء عالم إعلامي موازي، وانجذاب الكثيرين للمواقع التي تحمل وجهات نظر مُسبقة، ولكن الأكثر من ذلك، أنهم ينجذبون إلى مواقع تُقدم الأكاذيب على أنها حقائق.
الجمهور على استعداد لتصديق الأكاذيب التي تتوافق مع تحيزاتهم، وهذا مصدر تهديد للديموقراطية، ولمجتمعنا ككل.
كانت العادة أن يكون هناك مجموعة حقائق يتوافق عليها الجميع، وقد يكون هناك اختلاف على منهج الحل أو طريقته، الأن ليس لدينا اتفاق على تلك الحقائق الأساسية.
فجزء كبير من السكان يعتقد فعلاً أن الرئيس لم يولد في الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من أنه لا يوجد دليل ينفي ذلك؛ كما أن جزءًا كبيرًا من السكان يعتقدون أنه مسلم في حين أنه مسيحي، وهذا يثير القلق. وكل ما يمكننا فعله هو نشر الحقائق، ولكن هناك من يرفض قصصنا الإخبارية، اعتقادًا أننا نخفي عنه المعلومات.
ما الذي يمكننا فعله بهذا الشأن؟ لا أدري. هذه مشكلة خطيرة، وليس لدي حل لها. نحتاج لمبادرات لمحو الأمية الإخبارية، فهناك الكثيرين الذين لا يمكنهم التمييز بين الحقيقة والخيال، ولا يوجد لديهم معيار يحدد من يصدقون من وسائل الإعلام ومن يتجاهلون، في ظل وجود وكالات أنباء رئيسية مشبوهة بطبيعتها.
هل الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله هو نشر الحقائق؟
علينا القيام بواجبنا بشرف وأمانة، ونقل الصورة كما هي، وربما علينا انتظار كارثة ضخمة مبنية على التضليل، لكي ينتبه الجمهور لخطورة ما يحدث، ستكون تلك مأساة، ولكني أطن أنه احتمال وارد.
نحن أقحمنا أنفسنا في حرب في العراق، بناءً على افتراضات خاطئة، وأعتقد أن مثل هذه الأحداث يجب أن تدفعنا للتساؤل عن الافتراضات التي نضعها حول بعض الأمور.
حقيقة أن وسائل الإعلام أصبحت تثير الريبة، وهنا وفي بلدان أخرى يتم التشكيك في مؤسسات إعلامية كبيرة، بغض النظر عما يقدمونه من حقائق وعمن يكتبون فيها، فهم يميلون إلى عدم التصديق.
الجماهير تتحرك بعيون مغلقة وأذن صماء، لا يريدون أن يروا أو يسمعوا، حتى وإن وصلتهم لمحات عن الحقيقة، فهم يميلون لإدارة ظهورهم لها، وهذا هو العصر الذي نعيش فيه.
لا أعرف إجابة محددة أو حل نهائي، ولكن المؤكد أننا لدينا عمل ضخم لنقوم به.
إعداد: خالد البرماوي