بوسعي أن أنحت لك تمثالاً كهذا

فتح القصر أبوابه. انسابا وسط الحركة الرتيبة للداخلين، وعندما تجاوزا العتبة، انتحت به جانبًا، وأخذت تشرح له عمارة القصر.
ـ لاحظ هنا الأعمدة والأقواس التي تجدها في عمارة عصر النهضة.
يتطلع إلى حيث تشير، مرهفًا سمعه لصوتها الخفيض:
ـ لاحظ البذخ في تصوير الأسقف، والقليل من التمرد على التوازن الدقيق، وهو السمة الأساسية لعصر الباروك.
أمسك بها من خاصرتيها وشدها نحوه. لم يكن يشعر بأنه يريد أن يفعل ذلك حقيقة، لكنه أراد أن يختبر إحساس الحرية، ويُدرِّب نفسه على الانسجام مع هذه الحالة الجديدة. قبّلها على جبهتها. انسحبت منه برفق، ومضت أمامه في دروب القصر الذي تبدو خبيرة به، وتحفظ محتوياته وأماكنها.
أخذ يلاحقها من غرفة إلى غرفة، يستمع إلى شروحها، ويحتفظ في رأسه بكل الأسماء التي يطالع أعمالها: كارافاجيو، رافييل، تيشن، روبنز، أنطونيو كانوفا، وغيرهم من النحاتين والرسامين الذين عاصروا بناء القصر أو الذين اقتنت الأسرة أعمالهم في مراحل لاحقة.
أمام تمثال برنيني «اغتصاب بيرسفوني» شهق لمرأى أصابع أبولو المرمر، وقد غاصت في فخذ ابنة جوبتر. همس:
ـ كيف احتفظ الكاردينال بإيمانه بعد أن اقتنى هذا التمثال؟
ـ ولماذا لا تفترض أن إيمانه تعزز؟!
دار حول التمثال، وعاد ليتأمل دقة التفاصيل. جذبته من يده متجاوزة الأعمال الأخرى في البهو الكبير:
ـ لبرنيني عملين آخرين هنا، أحب أن ترى الثلاثة متتابعة.
دخلا إلى غرفة جديدة يحتلها تمثال وحيد.
ـ أبولو ودافني. انظر! مرة أخرى يصور لنا اللحظة الأكثر درامية في أسطورة الحب اليونانية.
جمُدت عينا جمال على فم دافني نصف المقتوح بصرخة الكرب. أطلق صيحة دهشة. وأغمض عينيه كي يستوعب ما يرى.
ـ هذا كثير، أكثر من قدرتي على الاحتمال.
شدها صوب النافذة متطلعًا إلى الأشجار، ليريح عينيه بجمال بسيط ومفهوم. خربشت تحت أذنه بأنمل سبابتها.
ـ ينتظرك داود النبي.
وسحبته إلى غرفة أخرى.
ـ انظر! اختار برنيني اللحظة التي تسبق قتله لجالوت. داود يعض على شفتيه ويضيِّق عينيه مُركزاً نظرته في نقطة ما على البعد.

إشراق الروح، الذي بدا مطبوعًا على وجهه، شجعها على استخدام كل قدرات الشرح التي تدربت عليها في محاضراتها أمام طلاب الفنون. واصلت تعريفه بتماثيل ولوحات القصر طبقًا لعصورها، لا طبقًا لترتيب الغرف في الطابقين. تشرح سمات العصر إجمالاً وتتوقف أمام القطع البارزة التي تمثله، وتوضح الفروق بين الأساليب المختلفة.
بين وقت وآخر، يلجأ جمال إلى أحد المقاعد المتاحة، ليس ألم ساقيه ما يحمله على طلب الراحة فحسب؛ بل اضطراب روحه أمام الجمال، وعجز ذاكرته عن اختزان كل ما تقوله خديجة.

اختتما جولتهما، بتمثال لامرأة مستلقية في عُريّ فينوس، يحتل سريرها المرمر فراغ غرفة، ولا يترك سوى ممر ضيق مزدحم بالسياح. تقدمته تشق طريقهما بين الطائفين. وأشارت:
ـ بولين بورجيزي، أخت نابليون وزوجة الأمير كاميلو بورجيزي.
ـ كم استغرق وقت استلقائها هكذا أمام أمام المّثال؟
ـ ماذا تريد أن تقول؟
ـ هل تظنين أنه عشقها؟
سأل بكل جدية، بينما جرت في خياله مقارنة بين خديجة والتمثال. قالت:
ـ لا أريد منك إلا أن تأمر لي بتمثال كهذا.
ـ بوسعي أن أنحت لك واحدًا بنفسي.
وأحس أنه لم يكن في أي وقت ممتنًا لكونه حيًا مثلما هو الآن.
—–

مقطع من “يكفي أننا معًا”