مواقيت البهجة
في الحادية عشرة تنفتح شرفة الحمام، فتكشف عن ارتعاشات حرير القميص ناصع البياض يتهلل مثل كلب حول سيده الجسم الأشقر الشاهق.
بين يديها طبق من البلاستيك تضعه على كرسي بالشرفة، تتناول منه قطعة ملابس و تنحني لتعلقها علي حبل الغسيل. نسمة الهواء ترعش الحرير فيلجأ إلى مزيد من الالتصاق؛ محتضناً النهدين، مبالغا في الكشف عن عمق الوادي الذي يمتد لينفتح على ضمور البطن والخصر مرتقياً كثبان الردفين، متلعثما بين استدارتي الفخذين.
بين الحين والحين ترتفع ذراعها لتعيد تسوية الشعر البني المقصوص، كلما اعتدت خصلة على العين، ولكن الحركة العفوية للذراع البيضاء المضيئة التي أرادت أن تكون قوة سلام تتحول إلى نداء محرض يستنفر العين لتنوب عن الحواس الأخرى وتتذوق كامل متعها.
وفي الوقت الذي تزيح العين فيه كسلها وتبدأ في تلمس حرارة ذلك الجسم وشم عطره الصباحي، والاستماع إلى تخسرات استرخائه؛ تكون قد انتهت وأرسلت نظرة لامبالية واستدارت بنـزق تحايل دوامات الحرير التي تعوق حركتها، وتمسك بمصراعي الباب وتغلقه وتختفي سريعاً، لكن اهتزاز المصراعين غير محكمي الإغلاق لا يكف عن الوعد بعودتها المفاجئة لتحتل من جديد الحيز الذي تركته محروساً بآلاف من الكائنات بالغة الدقة؛ تحمي بإخلاص حدود تموجاته التي يداعبها الهواء.
ولن يستجيب الجسم النـزق لوحشة القالب المنتظر، لكنه يشرق في مكان آخر. بعد نصف ساعة تنفتح الشرفة الرئيسية، وتخرج الخادمة بعصبة رأسها وجلبابها الريفي الأسود كمقدمة صادمة يصنعها مخرج محترف، و لا تلبث أن تتبعها في شورت جينـز أزرق مع بلوزة نصف كم سماوية فضفاضة. لا يبدو أن هناك ما تغير، رغم استبدال ارتعاش الحرير على النهدين بهمود القطن، كما أن صلابة نسيج الشورت لم تتمكن من إخفاء استدارة الردفين، ولم يكشف عري الساقين عن جديد أخفاه القميص السادل أو أخطأ في تصويره. وكأن آلاف السنين التي احتاجتها البشرية لكي تصل إلى التوازن الضروري بين الكشف و الإخفاء للجسم الإنساني تبددت، والملابس التي عاشت قرونا كثيرة بغبطة سجان لا يفرق في سجنه بين البشاعة والجمال، وجدت نفسها أخيراً مأمورة لاتملك إلا أن تطيع وتنثني بذلة لتقدس هذه البهجة التي ـ لحكمة ما ـ تجسدت في تموجات لحم بشري.
تبدو منشغلة، توجه الخادمة وترشدها إلى أماكن اختفاء الغبار، ثم تفلت نظرة، مراوغة هذه المرة: ليست بريئة تماماً، ولايمكن اعتبارها لعوباً هكذا ببساطة؛ نظرة استطلاع لجميع الكائنات الظاهرة والخفية تتأمل بلامبالاة الحسرة التي تتلبس وجوهها في تلك اللحظة، لحظة انسحابها إلى الداخل.
بعد أن تنتهي الخادمة، تعود هي في بلوزة سوداء ضيقة بلا أكمام مع شورت زيتوني، في يدها كوب خزفي تشرب شيئاً ما، وكلما رفعت يدها بالكوب ظهر تحت إبطها ولقطة جانبية من النهد الوردي المتململ تحت ضغط البلوزة المطاطة. عندما تنتهي من شرابها تلقي نظرة رحيمة بالكون، وتستدير لتختفي بعد أن تمد يداً معابثة فتغلق جانباً من الباب.
بعد خمس دقائق تعود مسرعة إلى الشرفة، تنحني قليلاً فيبدو النهدان بتمامهما، وقد كشفت عنهما الفتحة الدائرية للبلوزة، تمد يدها لتقبض على الفتحة وتنادي البواب ليحضر زجاجة ماء، تلقي بالأمر في حنان مثل ملكة من عامة الشعب، و بثقة تجعلها لاتنتظر جواباً.
في الثانية تعود في بيجامة من الحرير الأبيض يستريح على صدرها رأس طاووس يمتد جسده منكسراً على البطن، ولا ينتهي ذيله إلا على الفخذ مستسلماً تحت الحزام الذي يشق طريقاً للفتنة بفصله الصارم بين ضمور الخصر وامتلاء الردفين. تميل لتأمر البواب بإعداد السيارة. وبعد عشر دقائق تطل لترى إن كان انتهى، و في هذه المرة تكون قد ارتدت زي الخروج: جاكيت بلا أكمام يدق على الخصر وينتهي تحته بقليل مشاركا البنطلون الملتصق متعة احتواء الردفين. يجاوبها البواب مبتهجاً؛ فتعتدل وتطلق نظرة إلى لا أحد، وتنسحب إلى الوراء مثل بطلة تحتم عليها التقاليد ألا تولي ظهرها للجمهور الذي التهبت أكفه من التصفيق في نهاية العرض.
بعد خمس دقائق تنـزل، حقيبتها الرياضية في يدها، تخفي عينيها تحت نظارة شمسية، فيهرول البواب مغادراً السيارة ويمسك لها الباب كسائس يروض فرساً، تجلس إلى عجلة القيادة، وتلق بالحقيبة إلى البواب ليضعها على المقعد الخلفي، وقبل أن يكمل دورته حولها متأكداً من إحكام الأبواب، تكون قد أقلعت وهي تلوح باقتضاب لأطفاله وزوجته الذين اصطفوا ملوحين.
بعد ساعتين تعود، فيقفز البواب ليتولى إعادة السيارة إلى المرآب بعد أن غادرتها واختفت سريعاً كنجمة تخشى كاميرات التصوير. وستمضي ساعة طويلة قبل أن تظهر مرة أخرى في الشرفة، ترتدى بنطلون جينـز أزرق مع بلوزة بيضاء مستسلمة في ليونة فوق شموخ النهدين اللذين تستقر بينهما قلادة يرتد عليها شعاع الأصيل طائشاً فتبدو شقرة الوجه والذراعين سمرة برونـزية مخاتلة. وكمن يتراجع فجأة عن فكرته، تعود من منتصف المسافة بين الباب والسياج، تدخل وهى تجذب الباب، فينغلق نصف إغلاقة.
ومع مغيب الشمس تعود بالكوب في يدها. تجلس نصف مختفية وراء عمود يستر جانباً من الشرفة. تشرب وتنظر إلى الأفق المخضب. ثم تقوم، تتكئ على السياج، تلقى نظرة على الأرض قبل أن يهتز نهداها بحيوية وهي تستدير لتدخل.
تضئ نوراً خفيفاً يتردد معه طيفها، في حركة إقبال دائمة من عمق الشقة باتجاه الشرفة، وكأنها تهم بالخروج، ولكنها في كل مرة تتبدد قبل أن تصل إلى الباب، لتتخلق من جديد عند نقطة البدء مثل موجة.
وفي العاشرة يظهر ظل ضخم لرجل تتبعه إلى الشرفة، وتلقي بنظرة مستطلعة قبل أن تجلس في مواجهته. النور القادم من فتحة الباب الضيقة يضئ قطاعاً من المنضدة الصغيرة بينهما. وبين وقت وآخر تدخل لتعود بشيء على صينية في يدها، ثم يتراجع كل منهما داخل كرسيه، في سكون لا يقطعه إلا حركة يدها باتجاه النور بين وقت وآخر فيما يبدو تلويحة أو استطلاعاً للساعة التي تلمع.
ومع انتصاف الليل يقوم الرجل فتتبعه جاذبة مصراعي الباب بلطف من تعرف مقدار الحسرة التي تتولد من حشرجة القفل في يدها.
ـــــــــ
من المجموعة القصصية التي تحمل العنوان ذاته ٢٠٠٢ هيئة قصور الثقافة