يكفي أننا معًا..قريبًا جدًا من الدار المصرية اللبنانية


تخصص جمال منصور في قضايا الأحوال الشخصية، ولم يترافع في حياته إلا عن النساء. يصل إلى مكتبه في السابعة مساء، فيجد غرفة الاستقبال مزدحمة بالموكلات. تكون قهوته جاهزة، يشربها ببطء وتلذذ، ويشرع في تقليب أحد كتب القانون أو قراءة صفحات من رواية، دون أدنى إحساس بالحرج من المنتظرات اللائي يبدأن في التعارف وتبادل قصص زيجاتهن المؤلمة. كان يعرف أن هذا الاختلاط للحكايات يجعله يخسر الكثير من الزائرات اللائي ينسحبن، بعد أن يستمعن إلى الحالات الأقسى من حالاتهن؛ مقتنعات بتفاهة الأسباب التي جعلتهن يطلبن الطلاق. كان يعرف هذا، ولم يسع إلى تغيير عاداته، بل كان يعتبر أن هاتيك العائدات إلى بيوتهن من دون لقائه  هن أمته الحقيقية، وعودتهن إلى أحضان أزواجهن هي جوهر رسالته.

في التاسعة، لا يكون قد تبقى في المكتب إلا المُصِّرات على الطلاق والأرامل اللائي يعانين من مشاكل الميراث مع أخوة الأزواج المتوفين. يبدأ في استقبالهن ويستمع إلى القصص. لا يقاطع المتكلمة، لا يدافع عن الزوج الحي أو عن أشقاء الزوج الميت، يسألها عن المطلوب؛ فتضع قائمة طويلة. يستوقفها بإشارة من يده، وبعد لحظة صمت يتكلم.

ـ لكي أكون صريحًا معك، فإننا لن نستطيع حمل بطيختين في يد واحدة.

ويشرع في شرح خطته في المعركة «سنرفع دعوى خُلع أولاً، ثم نطالب بنفقة الأولاد» أو «سنطلب الأملاك المسجلة باسم المرحوم، أما السير في حصر أملاك أسرته وتحديد حصته فيها فسوف يستغرق وقتًا أطول، ويمكن أن يعرقل حصولك على الحق الواضح».

بعد أن ينتهي من استقبال آخر النساء الحزينات، يستدعي السكرتير. يأتي الرجل جاهزًا بقائمة دعاوى الغد. ينطق اسم الموكلة. ويرد جمال بكلمة واحدة: «تأجيل للاطلاع.. تقديم إعلام الوراثة..طلب استجواب الشهود» وفي النهاية يدفع إليه السكرتير بملف القضية المحجوزة للمرافعة، ثم ينسحب ويتركه وحيدًا أمام جهاز الكمبيوتر.

منذ سنوات طويلة لم يكتب مذكرة جديدة، لديه نماذج عدة من المذكرات: الحب، البخل، الخيانة، العنف، وزنا المحارم. الموضوعات الأساسية في حياة الناس التي لا تخرج عنها الدراما وقضايا الأحوال الشخصية.

يستخرج من ذاكرة الكمبيوتر مذكرة قضية شبيهة سابقة، يستبدل الأسماء، ويُعدِّل الاختلافات الطفيفة في التفاصيل طبقًا لإفادة الموكلة، ثم يولي كل عنايته إلى جوهر المرافعة التي سيرتجلها أمام المحكمة، والتي ستجعله يكسب القضية لصالح موكلته، وهذا يتوقف على المكان الذي سيباغت فيه القاضي بعبرة البطيختين. أحيانًا يضعهما في البداية: «لا يمكن للمرء أن يحمل بطيختين في يد واحدة، وموكلتي يا سيادة القاضي ترى استحالة العيش مع رجل يحمل بطيختين» ويسكت متنفسًا بعمق متلذذًا بصمت القاعة قبل أن يستأنف: «رجل رقيق الحال لا يستطيع أن ينهض بنفقة زوجة واحدة، يُقدم بجسارة على الزواج من ثانية!».

أحيانًا، يبدأ المرافعة برواية الحكاية ابتداءً من لحظة التعارف، ثم بداية الزواج السعيد، إلى أن يصل إلى اللحظة التي بدأ فيها الزوج التغيُّب عن البيت والعودة بآثار غرامياته، وعند هذه الذروة، يصمت حتى يمنح القاعة فرصة تأمل الدرك الذي انحدر إليه الزوج، ثم يُطلق حجته في وجه القاضي «هل بوسع أحد حمل بطيختين في يده؟!» يأخذ نفسًا ثم يستأنف «هذا الزوج يا سيدي يصر على حمل بطيختين وثلاث وأربع، حتى بدأ يخلط وينادي هذه الزوجة التعسة بأسماء عشيقاته العابرات». ويشرع في ذكر الأضرار النفسية والمادية التي وقعت على موكلته وجعلتها تطلب الطلاق، ويهتف متضرعًا: «إنني يا سيادة المستشار أهيب بضمير المحكمة أن تُخلِص موكلتي التي تعاني من المرض، وهذه تقارير الأطباء أودعها أمانة الجلسة إذا أذنتم لي في نهاية المرافعة».

في بعض الأحيان يجعل من البطيختين مسك الختام؛ بعد أن يعرض القضية بحذافيرها، يعدد طلبات الموكلة، ثم يستدرك «ولكنني أطلب من عدالة المحكمة إجراء نفقة وبشكل عاجل لأبناء موكلتي، ثم النظر بعين العدالة للطلبات الأخرى؛ فالقضية معقدة، ولا يمكن حمل بطيختين في يد واحدة».

ذات مرة، كانت الموكلة سمينة جدَّا، وكان القاضي شابًا مُرقى حديثًا، أخذته خفة الشباب بعيدًا عن الرصانة الواجبة للمنصة. وقال له ساخرًا: «أوافقك تمامًا يا أستاذ، لو كانت البطيخات بهذا الحجم سيصعب على المرء أن يحمل واحدة، وليس اثنتين».

لا يشبه جمال منصور أبناء جيله من المحامين، بل ينتمي إلى جيل انقرض مع تدهور تقاليد المهنة. يقرأ كل ما تقع عليه يداه، من كتب القانون إلى الفكر، والروايات، والنقد الأدبي والبلاغة، يعرف أن اللغة خيالية، لكنها تزعم مطابقة الواقع، ولأن القوانين مصنوعة من اللغة اعتبرها خيالية كذلك؛ ولذا فقد آمن بأن الفيصل ليس القانون وليست الوقائع، بل براعة المحامي الذي يعرف كيف يحكي حكاية موكلته أمام القاعة، وكيف يستطيع إعادة خلق الواقع على هواه في  مذكرة مقنعة.

منذ بداية حياته العملية لاحظ أن الناس ترتبك من مراوغات المجاز؛ ولذلك تتلقف القوالب الجاهزة وتتشبث بها كما يتشبث الغريق بقشة. وقد وجد ضالته في قالب البطيخ الذي يجعل القاعة تأنس إلى مرافعته.

 لم يعد يتذكر إن كانت العبارة إلهامًا توصَّل إليه بنفسه أم مثلاً شعبيَّا سمعه ذات مرة، لكنها ارتبطت به حتى بدا للآخرين نبيَّا اقتصرت رسالته على هذه العبارة الوحيدة. بفضلها لم يخسر قضية. استفادت منها موكلاته، وكسب من ورائها الكثير من المال، وكان من الممكن أن تمضي حياته على نحو أفضل، لو لم يكن أول المؤمنين بها.

هو الشقيق الأكبر لولدين وبنت. ولدته أمه، ثم انقطع حملها. لم يعرف الأطباء عيبًا أو سببًا لذلك، فامتثلت للقضاء، لكنها حملت مجددًا بعد سبعة عشر عامًا. أنجبت الثلاثة الآخرين في تتابع، كأنها كانت بصدد مهمة لابد أن نتجزها قبل أن تموت.

رحلت ذات صباح، ولحق بها أبوه في المساء، مما خلق أسطورة حول حبهما، ولم يحاول جمال أن ينفي الأسطورة أو يؤكدها، فقد وجد نفسه أبًا لثلاثة، كان من الممكن أن يكونوا أبناءه هو. كان دخله محدودًا في بداية حياته العملية، وكلما فكَّر في الزواج يقول لنفسه: لا يمكن حمل البطيختين في يد واحدة.  لكنه لم يقترب من عتبة الستين أعذرَ؛ فبعض أجمل الموكلات يُفضِّلن دفع الأتعاب بطريقة غير معتادة، وبعضهن يُقدِّمن له هذا المعروف ككلمة شكر فوق الأتعاب المالية، وبعضهن كن يتدربن معه على مهارة حمل البطيختين، وعندما تشعر الواحدة منهن بغبطة القصاص من الزوج الخائن، تتراجع عن طلب الطلاق، وتعود إلى حياتها في سلام.

منذ سنوات، بدأ يراقب الزحف الوئيد لشيخوخته، برضى زوجة أخذت بثأرها، ووحشة مُطلَّقة تتحسس الجانب الخالي من السرير. خطط للتقاعد في الخامسة والستين، ودون يقين بأنه سيعيش حتى تلك السن وضع خطة للادخار، بحسابات دقيقة لكل شيء، حتى تكاليف جنازته.

مالم يكن في حسبانه، هو إشراقة عينين، بددت عتمة مكتبه ذات ليلة.

عزت القمحاوي

ــــــ

الفصل الأول من الرواية