انظر..هذه زجاجة وهذا كيس قمامة!

غرفة فسيحة بجدران رمادية قابضة. مقاعد حديثة صارمة يجلس عليها مهاجرون شباب من الجنسين، بينما تقف سيدة ألمانية في مقدمة الغرفة، تحمل في يدها زجاجة فارغة، تشير إليها بطريقة التمثيل الصامت، وتنقر على سطحها، كأنها تقول «هذه زجاجة» ثم تلقي بها في سلة قمامة خضراء، ثم قنينة من البلاستيك وتلقي بها في سلة صفراء، ثم علبة من  من الورق المقوى وتلقي بها في سلة زرقاء.

تتوجه السيدة بالحديث إلى كاميرا البرنامج الذي يشهد هذه المحاضرة التثقيفية: «لا بد أن نشرح لهم أن لدينا عادات مختلفة، وقواعد عليهم أن يتبعوها».

يمكننا أن نعتبر الجملة التي قالتها السيدة أمام الكاميرا، والمحاضرة  كلها تعبيرًا عن اختلاف حضاري، وإن كنا نشم  في هذا الاختلاف رائحة الاستعلاء الحضاري.

ولا يمكن أن نلوم السيدة؛ فالكثيرون منا يسبون شعوبهم عندما يرون أكداس القمامة في الشوارع. (نحن شعب…) وبعد هذا المطلع يضع المتفاصح ما قدّره الله عليه من شتيمة، وللمزيد فإنه ينطلق في مقارنة بيننا وبين «أوروبا والشعوب المتقدمة»!

ربما لم يسافر هذا المتبريء من شعبه الفوضوي المهمل والقذر، لكنه ينقل عمن سافروا وعادوا ليصفوا النظافة، دون أن يلاحظوا كيف تتحول الشوارع إلى مزابل حقيقية في نهاية سهرة العطلة الأسبوعية مساء السبت، حيث تفيض القمامة حول الحاويات، وتمتليء الشوارع والحدائق بنفايات الساهرين ، لكن من يخرج للشوارع صباح الأحد لا يرى سوى الشوارع التي اعتاد نظافتها، حيث تتم أعمال نظافة المدن عادة في ساعات الفجر، وتلتزم البلديات بدفع الأجور مضاعفة للعمل في هذه الساعات المختلفة، مراعاة لاعتبارات مختلفة منها بالطبع الحفاظ على سيولة المرور عندما يخرج الناس إلى أعمالهم، بحيث لا ترى وقت الظهيرة كناسًا يعطل المارة ليتسول منهم!

وإذا كان الاختلاف تعبيرًا عن المستوى الحضاري؛ فالمدينة الأوروبية لم تعرف النظافة، إلا بعد أن حصدت موجات الطاعون مئات الألاف في كل مرة خلال العصور الوسطى، فبدأت جهود تغطية قنوات المجاري وتنظيف الشوارع. ويعترف الأوربيون بأنهم لم يعرفوا استخدام المياه في نظافة الجسد إلا بعد أن عاد الرحّالة والغزاة من الشرق العربي. حتى الملوك والنبلاء لم يكونوا يستحمون إلا نادرًا، ومن النوادر المأثورة  عن الملكة إيزابيلا التي أنهت الوجود العربي في إسبانيا أنها لم تستحم إلا مرة واحدة في حياتها!

والآن صارت النظافة قيمًا عالمية، لا يحق لأحد أن يفخر بها على الآخر. و«القيم المختلفة» التي تعتقدها السيدة الألمانية، في التعامل مع القمامة، هي في حقيقتها اختلافات بين نوعين من الإدارة، إحداهما رشيدة فرضت تصنيف القمامة من المنبع، لأنها تعرف كيف تختصر الجهد، وتستفيد من هذه القمامة بإعادة تصنيعها بكلفة أقل، والأخرى سفيهة لا تحسن إدارة مواردها، ولا يقتصر تبديدها للموارد على القمامة ومخلفات الزراعة، التي  تظل  عبئًا علي الصحة، بدلاً من أن تتحول إلى نعمة.

ولن تعرف السيدة الألمانية أن المهاجر  ليس أقل تحضرًا، وأنه عندما كان يدس كل قمامته في كيس واحد، أو يلقي بها في الشارع ببلده الأصلي، لم يكن حسه الحضاري بأقل من حس الأوروبي، لكن النظام السياسي الذي انتهى به لاجئًا في بلاد الآخرين هو الذي لم يضع نظامًا فعالاً لجمع القمامة والاستفادة منها، رغم اختراعه للعديد من هيئات النظافة التي تتكدس بموظفين تتزايد مكافآتهم وحوافزهم، كلما تراكمت القمامة في الشوارع!