انتهى الأخ العقيد معمر القذافي قائد الثورة الليبية على الاستعمار مقتولاً على أيدي بعض فصائل الثورة الليبية على الاستحمار، في أحداث هي الأكثر غموضًا في الحراك العربي.
في تلك اللحظة الفارقة لم يكن هناك من يتصور إمكانية ميلاد قذافية جديدة من رحم الربيع العربي، بل وأن تتمدد الظاهرة حتى تصل إلى قلب العالم الحر: أمريكا!
التأثير والتأثر بين الدول، كما بين الأفراد، لا يمضي في اتجاه واحد من الأكبر إلى الأصغر دائمًا، وقد عرفنا هذه الحقيقة في العالم العربي، حيث عاشت الأنظمة الوراثية في رعب من تأثير الجمهوريات الثورية عليها، لكن هذه الأخيرة هي التي تأثرت في النهاية بالممالك والمشيخات، ولم تتقاعس جمهورية عربية واحدة عن إعداد وريث للحكم، حتى ابن علي الذي لم يجد ابنًا أو شقيقًا كان يستعد لتوريث زوجته.
هل تأثرت الولايات المتحدة بالقذافية العربية؟
الثابت أنها تأثرت بالربيع العربي، بالثورة المصرية على وجه الخصوص، وقد ظهر الأثر في كلمات أوباما المنافقة، وعمليًا في حركة “احتلوا وول ستريت” لكن سيكون من قبيل التعسف الادعاء بأن أمريكا اختارت رئيسًا يجمع بين الجسارة الجاهلة والبلاهة والسوقية تماشيًا مع القذافية العربية.
هناك ـ بالأحرى ـ أسباب موضوعية أدت إلى صدمة انتخاب ترامب، وهو بالتأكيد ليس الرجل الأغرب أو الأقل كفاءة بين رؤساء العالم، لكن مكان ظهوره هو الأغرب، في مقر قيادة الليبرالية الغربية المغترة بنظرية فرانسيس فوكوياما حول انتصارها النهائي واكتمال التاريخ.
من هذا الغرور بالذات، جاء ترامب، بعد أن استفحلت الفوارق بين البشر في ظل الليبرالية المنتصرة، وقد تحالفت الأجهزة العميقة في كل دولة مع الشركات الكبرى من أجل تحويل الانتخابات إلى كرنفال احتفالي وموسم للفضائح والتنابذ بالأسرار الشخصية للمرشحين، ينتهي إلى ذات السياسات، سواء نجح اليمين أو اليسار.
انتخابات بعد أخرى، أي خديعة بعد التي سبقتها، تصاعد القنوط والغضب من النخب الحاكمة في الأوساط الأقل ثقافة. ولم يقف الغضب من النخبة السياسية المسيطرة عند حدود البحث عن رجل من خارجها، لكنه تعدى ذلك إلى الكفر بكل ما تمثله هذه النخبة وما تدعو إليه من قيم.
هكذا، فإن الرجل الذي يفهم الاقتصاد بشكل تقريبي من واقع إدارته لشركاته، والذي أثار مشاعر الغضب عند ملايين البشر في أمريكا وخارجها، وجد من يختاره، رغم كل الإهانات التي يوجهها للمرأة والمهاجرين والأقليات، بل ربما بسبب هذه السوقية بالذات، اختاره من أعطوه أصواتهم، فهو يعبر عن مشاعرهم الأكثر بدائية التي اضطروا إلى إخفائها طويلاً بضغط من النخب المثقفة، التي وضعت مدونة سلوك حضارية حول ما يليق ومالا يليق.
ربما يبدو ترامب في نظر من انتخبوه رجلاً صادقًا، يعبر عن رغباته ومكنونات نفسه، ومكنونات أنفسهم بما فيها الرغبة في امتلاك النساء، وهذا لون جديد من الحرية، وحلم أمريكي جديد وفره ترامب للسوقة.
إذًا، في مقابل الملايين التي تعارضه، بل تستنكف وجوده في البيت الأبيض، هناك الملايين حملته إلى الرئاسة، وهو ليس الديكتاتور الأول الذي يحكم بلدًا كبيرًا عبر صندوق الاقتراع، ولن يكون الأخير.
هناك موجة من الكفر بالديمقراطية، يستوي فيها من شبعوا منها حتى بشموا في الغرب، ومن لم يتذوقوها إلا على طرف اللسان في بلاد مثل روسيا وتركيا ومصر، كما يستوي أن يكون الديكتاتور قيصرًا يعرف ما يليق وما لا يليق، أو قذافيًا يجمع بين البلاهة والسوقية.