هل سألت نفسك عن سر هذا الشيء الغامض: الحب؟
هل من المفترض أن يبهجنا أم يشقينا؟
أفكر في رسالتك الحزينة وفي وضعي. قرأت للمرة العاشرة ما كتبته من دون أن يعينني على التحليق مجدداً. هل تظنين أن أوضاعنا كانت ستظل أفضل، لو تبعنا مخاوفنا، وتحاشينا بعضنا البعض كما فعلنا لسنوات؟!
في “اسم الوردة” يتأمل “أدسو” هيامه بفتاة الدير، ويحاول أن يجد التفسير في اجتهادات علماء المسلمين، مورداً آراء لابن سينا وابن حزم في تعريف الحب وعلاماته.
وإذا كان هذا الخواجة قد لجأ إلى إمامنا الفقيه ابن حزم فقد رأيت أن ألجأ إليه أيضاً لأتعرف على حالنا. أغلقت الكمبيوتر وأعددت فنجان قهوة وسحبت “طوق الحمامة” وأسلمت نفسي إلى الفقيه، كما يستكين مريض إلى طبيبه، خاطبني: ” الحب ـ أعزك الله ـ أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالها عن الوصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة”.
تعريف مولانا أكثر بشرية، ويناقض ما توصل إليه اليونانيون والإغريق، الذين اعتبروا الحب سهماً تطلقه الآلهة فيخترق قلوب المحبين.
أراح اليونانيون والإغريق أنفسهم وألقوا بمسئولية الحب على الآلهة. وكان من الطبيعي أن يخفقوا في توصيفه وتعريفه. في المأدبة يضع أفلاطون تعريفاً على لسان سقراط:”الحب هو الشعور بالرغبة في شيء لم تكتسبه بعد” ومعنى هذا التعريف الكارثة، أن اللحظة التي يكتمل فيها بنيان الحب هي ذاتها اللحظة التي تبدأ فيها أحجاره بالتساقط، حجراً وراء حجر.
لكنك تعرفين أنني لا أكف عن الاشتياق إليك حتى في حضنك، ولم أفهم إلا معك، معنى إشراقة الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي: “كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه”.
فيلسوفنا عرف الحب الذي حاول أفلاطون أن يتخيله. والأسوأ أنه لم يقيد الحب في ذيل عربة الرغبة، إلا لينسفهما معاً؛ إذ يفرق بين الحب العامي الزائل والفاسد “حب الجسد” وبين ما يدعوه الحب النبيل “حب الرجلين في العلم” ومن حسن الحظ أن هذه المحاولة المبكرة لخصاء البشرية قد فشلت؛ فالعالم يمضي على هدي من أشواق جسده وروحه، وليس على أفكار المفكرين.
يعشق الناس من دون الالتفات إلى تعريف الحب، مثلما تنبض قلوبهم بغير حاجة إلى معرفة آلية الدورة الدموية.
أستاذ أمريكي من أصل إيطالي فجع بانتحار إحدى ألمع تلميذاته؛ فاكتشف أنه لا يعرف شيئاً عن حياة الطلاب، وخمن أن سبب الانتحار هو الحب، وهو تخمين لايحتاج إلى كثير من الذكاء، فالناس ينتحرون عادة عندما يحصلون على الحب وعندما يحرمون منه، ولانستطيع أن نحصي أعداد الفريقين لنعرف أيهما أكثر قتلاً: الحرمان أم التحقق؟!
في مقابل ميتات المحرومين من أمثال روميو وقيس، هناك ميتات السعادة بالحب.. في فيلم فرنسي بعنوان “الحلاقة” يتردد البطل الغامض على صالون الحلاقة الشابة حتى تنتبه إليه وتحبه، ولكنه ينتحر إثر ليلة حب رأى أنه لن يصل إلى سعادتها ثانية.
نعود إلى الأستاذ ليو بوسكاليا الذي أنشأ فصلاً دراسياً عن “الحب” كان مثار تندر زملائه. أضاع الرجل وقت الطلاب وكانت النتيجة كتاباً مملاً أتخمه بالحكايات والأقوال المأثورة، من دون أن يصل إلى تعريف قاطع للحب!
هناك تعريفات بعدد تجارب العشق، أكثرها دنيوية وحسية ما يرد في ألف ليلة “حنت أعضاؤه”. ومثل ابن حزم يشد العباقرة المجهولون الذين أبدعوا ألف ليلة الحب إلى طابعه الدنيوي، لكن الليالي تؤمن بقدرية وقوعه كالصاعقة، فعادة ما نقرأ:”نظرت إليه نظرة أعقبتني ألف حسرة وتعلق قلبي بمحبته” أو “فلما نظرت إليه مال قلبي له وحبيته”.
هذه الرؤية للحب بوصفه صاعقة تولد حنيناً منفلتاً للأعضاء أكدتها ـ بعد ألف ليلة ـ روايات الفجائع العشقية:”الأحمر والأسود”، “آنا كارنينا”، “مدام بوفاري” و”عشيق الليدي شاترلي”.
ويمكننا أن نضع في باب تآلف الأعضاء تعريف سومرست موم للحب، باعتباره قدرة اثنين على استعمال فرشاة أسنان واحدة. وجرياً على هذا التعريف الحسي يمكننا أن نقول الشرب من كأس واحدة، أو حتى من دون كأس، في استعاضة عن الكئووس بفجوات الأجساد. هذا التعاون للأعضاء يبدأ في التبدد مع كل طوبة تسقط من جدار الحب. لكن كثيراً من العشاق لاينتبهون إلى نذر الكارثة عندما تظهر الفرشاة الثانية في الحمام، أو عندما تظهر الكأس الثانية على الطاولة، فكما للحب علامات، للبغض علامات أيضاً إذ يبدأ الجسد في التزام حدوده إلى جوار الآخر، وباكتمال الانهيار يمسي التجاور ذاته مستحيلاً، وهنا يأتي دور الرسائل.
أتعرفين لماذا أكتب كل هذا لك الآن؟ّ
لأن خصري يشتاق إلى عناق ساقيك حوله، يصنعا أجمل مزود عرفه تاريخ الولادة المنبوذة، كأس نبيذ واحدة لنا، تسقينني منها، بينما تنبش أصابعي الحشائش بحثاً عن البلل.
الذين يعيشون عثرات حبهم الأول قد لا يعجبهم تعريف الحب بوصفه حنيناً للأعضاء. ولكن هذه هي فتنة حبنا. معك تحررت من كل قيود الحب الأول.
الحب الأول شعاره الخالد “إلى الأبد” ويكفيه بؤساً أنه يشترك في هذا الشعار مع الديكتاتورية القميئة. وليس للأعضاء من أهمية في سن الإيمان بالمطلقات، فالحبيبة هي الأجمل، والأكمل، وليس هناك من قدرة تستطيع أن تقنع الرومانسيين بأن المرأة كالرجل، لديها جسد يتعرق وفم تجتهد لتنظيفه عندما تحب، والأخطر أن لديها ـ مثله ـ عمراً ينتهي.
العمر ممتد أمام الحب الأول كطريق بلا نهاية. وليست هذه هي الجبلة الوحيدة التي يشترك فيها مع الدكتاتورية، بل يشترك معها في قدرته على مصادرة المستقبل، فبعدما ينتهي ـ وعادة ما ينتهي أو لا يتحقق أصلاً ـ لا يدعنا نذهب إلى حب جديد إلا مكبلين بأصفاده!
نقع في الحب، من دون أن ننتبه أننا محكومون بمرجعيات جمالية تفرضها ديكتاتورية الحب الأول، الذي يحرقنا بنار عدم تحققه؛ فيظل الرجل منا يبحث بقية عمره عن فلجة الأسنان التي أحبها، أو تقويسة الأنف، وربما رائحة الخبيز التي شمها في ملابس عذراء شاغلته عن البكاء بنبع جاف ذات يوم. وقد تعيش المرأة تبحث عن خصلة الشعر البيضاء التي يستنكفها المسنون من زعمائنا غير المحبين. (نسيت أن أقول إن بطل فيلم الحلاقة كان يسعى في كهولته إلى الحلاقة الشابة بسطوة الحنين إلى حلاقة كهلة تتيم بها في طفولته).
ديكتاتورية الحب الأول، قد تكون هي نفسها المسئولة عن دفعنا إلى الحب مجدداً، وبذل المحاولة إثر المحاولة. ومثلما لايعرف أحد الأسباب التي تدفع فسيلة إلى الانبثاق من جسد أمها النخلة، لايستطيع أحد أن يمنع حباً جديداً من أن يولد تحت حب قائم بالفعل.
ــــ
من فصل «القول في الحب» كتاب الغواية