آدم هازليت
ترجمة: أحمد شافعي
قال لي صديق يعمل طبيبا نفسيا ذات مرة إن من تعريفات الذهان أنه اعتقاد راسخ في عالم خيالي يدوم شهورا أو سنين، ولا يستطيع إدراكه غير المريض نفسه. وتساءل إن لم يكن ذلك أيضا تعريفا لائقا بالروائي. ولما كنت قبيل ذلك الحين قد خرجت من خمس سنوات من التركيز على العالم الخيالي في كتابي الأخير، فقد رأيت أن لرأيه وجاهته. وجعلني ذلك أفكر في النزعة التي تفضي بالناس إلى الكتابة في المقام الأول، وفي العلاقة بين حيواتهم الواقعية والخيالية.من مفارقات الكتابة أنه لكي تشبع رغبتك إلى التواصل مع الآخرين، فإنك تنتهي إلى إنفاق قدر هائل من الوقت وحدك. وفي حالة الكتاب، فإنه يضيف سنين من العزلة، فبعضها يكون مرضيا، بل لذيذا ممتعا، وكثير منها يكون بائسا يعتريه الشك. والمفارقة أن من أسباب رغبة كثير من الكتاب في التواصل ابتداء، معاناتهم الوحدة في مرحلة أسبق من حياتهم فتكون الكتابة سبيل التغلب على تلك الوحدة والاتصال مع الآخرين. وإذا بالعزلة الجبرية في الصِغَر تصبح خيارا في الكبر. وما كان مدعاة للخجل يصير من الشروط اللازمة للعمل. فأنت تقتلع نفسك من العالم لكي تزداد اقترابا منه.
أوضح أسباب عزلتي في صغري أن أبي ـ الذي أفترض أنني في الرابعة عشرة من عمري كنت لم أزل أكنُّ له شيئا من الحب ـ قد انتحر. ولأنه كان يعاني الاكتئاب من قبل فلم يخطر لي قط أن ألومه أو أغضب منه. فقد بدا لعقلي الصغير أنه مات شهيد سبب خفي.
فقدان أحد الأبوين أمر لا ينقصه الشيوع، وقد فعلت ما يفعله أغلب الصغار حينما يبدو لهم أن عالمهم قد خرب. حاولت أن أكون أقل اهتماما بما بقي منه. ولا يزال بوسعي أن أتذكر كم كنت معتزًّا بالتشبيه الذي توصَّلت إليه إيضاحا لموقفي: كنت أقول لأصدقائي إنني احترقت، وإنني لم أعد أحس بشيء ما لم يبلغ درجة حرارة جحيم وفاة أبي. صرت ـ بعبارة أخرى ـ محصنًّا من الشواغل والخيبات الحقيقية التي يعانيها أغلب الناس لمجرد أن أرواحهم لم تنكو/تحترق بمثل ما انكوت/احترقت به روحي.
وبالطبع كان هذا غير صحيح. كنت بحاجة إلى محبة الناس واهتمامهم أكثر من ذي قبل. بل كان احتياجي إلى ذلك احتياجا لا يحتمل. ولكنني كنت قد لجأت إلى استعارتي الدراماتيكية الرومنتيكية إخفاءً لتلك الحقيقة. فكان ذلك درسا مبكرا في قيمة القصة بوصفها مكانا للاختباء. وذلك ما كنت أفعله ـ انطلقت في استخلاص حكاية من حياتي، منطوقة داخلي فقط أول الأمر، ثم لما بدأت أدوِّن يومياتي التصقت بالصفحة.
قد يكون مزاج ما قاسيا، ولكن كتابة جملة محكمة عن هذا المزاج نفسه قد تحقق لك الرضا، وبصيصا من السيطرة. ومع هذه القوة الشخصية الصغيرة جاء نزر من المتعة، وذلك ما لم يكن لي منه أدنى نصيب في تلك المرحلة من حياتي، ما استثنينا انفراجة المخدرات. كان إبداع موسيقى عبارة جيدة ـ فيها صدى من أفضل الذي أقرؤه ـ مهربا يمكن الرجوع إليه مرارا وتكرارا.
هكذا كان الرثاء ملاذا. رؤيتي نفسي والمحيطين بوصفنا جميعا شخصيات مصيرها مختوم سلفا على ما فيه، فهو يسمح بدخول الحزن مجردا، لكنه يغلق الباب دون مادة ذلك الحزن نفسها. وانقضت سنوات قبل أن أقرأ سطرا لدى [الروائي الأمريكي] راسل بانكس في روايته “أسى” عن أخوين “أملهما الوحيد في الاتصال بغيرهما من البشر يبدأ من تفصيلهما لنفسيهما مزاجا رثائيا للاتصال بالناس، فكأنما حياة كل واحد من الناس قد انتهت”. هكذا مررت بواحدة من تلك التجارب الغريبة التي يجد المرء فيها نفسها في كتاب.
درست الإنجليزية في الكلية وتعلمت السردية المعيارية في ذلك العهد، السردية المتعلقة بالتطور التاريخي الأدبي، وكانت تجري تقريبا على المثال التالي: بجميع ما لها من قوة وصفية ونطاق اجتماعي، تبنَّت واقعية القرن التاسع عشر أيديولوجية برجوازية تقوم على الذات المتزنة المتماسكة القابلة في العادة للاقتران بغيرها من الذوات. وتلك هي الأيديولوجية التي فجَّرتها ـ بضغط من الحياة المدنية ـ حداثةُ القرن العشرين بشجاعة، غارسة مشاعر الوعي الحديث المنقسم إلى أعماق تركيب كل جملة. ثم حدث في الوقت المناسب أن بدت الحداثة نفسها ملتزمة بـ”سردية كبرى” من سرديات الثقافة الغربية، محرزة تقدما جليلا عبر سلسلة من الأنصاب الفنية أعادت الحداثة تأويلها على نحو بارع، فقدمت في ثنايا ذلك الفصول الختامية الجليلة لخط من خطوط الحبكة الدرامية يمتد من أفلاطون إلى جويس. وبذلك وصلنا إلى ما بعد الحداثة المعاصرة بمفارقتها العميقة، حيث جاء خياط ليعيد تفصيل هذه السردية واضعا المعنى نفسه موضع تساؤل لا ينتهي.
في شبابي، كان الدرس الذي استقيته من ذلك السرد التاريخي هو أنه من أجل أن تكون لك قيمة ككاتب عليك أن تكون مبتكرا في الشكل. وذلك ما كان يفترض بكل جيل جديد أن يفعله: أن ينال من الأشكال القديمة ويبتكر نحوا جديدا يلائم العصر.
ثم وقع أمر ما. تركت الأكاديمية. انتقلت إلى نيويورك وحصلت على وظيفة. وبعد العمل كنت أجلس إلى مكتب في غرفة نومي الصغيرة وأحاول أن أكتب قصصا قادرة على التأثير في الناس، وحملهم على الإحساس بشيء. لأن ما كنت أعرفه في نفسي وفيمن حولي لم يكن في المقام الأول والأكبر سطوة الجماليات الحداثية. بل كان بالأحرى اكتئابا تافها، وإحساسا بأنه لا شيء مهم، وأنه مهما يكن الموقف الذي تتخذه، فإنه بطريقة أو بأخرى موقف اختياري، يمكن التراجع عنه. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، كنت أعاني الوحدة والألم والرغبة في الحميمية. وتلك مواضيع لم يكن لأغلب الأدب ما بعد الحداثي أدنى اهتمام بها، اللهم إلا كمواد للبارودي.
أعتقد أنك تؤلف الكتاب الذي تريد ان تقرأه. وما كنت أتوق إليه كقارئ هو بعض الاعتراف ـ مهما يكن مهشَّما ـ بما في الحياة المعيشة من قلق، وألم، وعبث في محاولة الوصول إلى البشر الآخرين بقدر ـ مهما يكن ضئيلا ـ من الأمانة والانفتاح. وهكذا، بدون إدراك تام لما كنت أفعله، كتبت على مدار السنوات القليلة التالية سلسلة قصص أصبحت في نهاية المطاف كتابي الأول، وكانت كل قصة منها معالجة درامية بطريقة أو بأخرى لذلك الكفاح: كيف العثور على الحميمية التي انتزعت حتى من اللغة التي نستعملها في وصفها. كيف يمكن القبض على تجربة الحزن وقد اجتيح الحزن لدينا بتسليع الاعتراف؟ لم يكن العدو هو النقد الجديد. بل الكليشيه.
كنت أحاول أن أكتب نثرا يخلق إيقاعُه جوًّا وموسيقى يتسعان لأدق سمات العزلة والرغبة في التغلب عليها، والإحساس بالفشل أو النجاح العابر أحيانا في تحدي تلك العزلة وصعودها في وعي القارئ. ما كنت أومن به وقتها، ولا أزال، هو أن المصدر الفني اللازم في العالم العنيف المشتت الغارق في الميديا لم يعد نقد المعنى الممكن ـ إذ أصبحت الثقافة الجماهيرية نفسها ذلك النقد. بل إن اللازم بالأحرى هو إنتاج معنى مقاوم للتشتت. فالرأسمالية الاستهلاكية تزدهر بخلقها كلا من وحدة الإنسان وآلاف السلع المعالجة لهذه الوحدة في الآن نفسه. ومن أشكال مقاومة ذلك، تجربة الفن والحياة للحميمية الإنسانية التي تتحقق من خلال الالتفات الدائم إلى ما يكمن وراء وخارج مجال السوق.
****
هذا كله طيب وجميل، ولكنه بالطبع أكثر تعقيدا من ذلك. فكتاب الأدب ليسوا ببساطة منتجي وسائل نافعة لمحاربة قيم السوق في اختراقها متزايد العمق. فنحن ـ أو أنا ـ واقعون في شرك الثقافة شأن غيرنا. والحقيقة أنني إذ أتأمل هذا أدرك أن النزعة التي أحاول وصفها هنا، أعني النزعة التي تفضي بالناس إلى إبداع عوالم خيالية، أتاحت لي اجتناب الحميمية بقدر ما أتاحت لي معرفتها. فلو أنك تنفق حياتك في إنماء المقدرة على اختراع القصص، يصبح بوسع هذه المقدرة ذاتها أن تحجب عنك ما يقع أمام عينيك مباشرة.
قبل عدد من السنين على سبيل المثال، ولأسباب لم يعد بوسعي أن أتذكرها، اتصلت بجليسة الأطفال العجوز سوزان. لا أتذكر لماذا كنت أتصل بها، ربما لأنقل إليها بعض أخبار عمة لي كانت هي من قبل على اتصال بها. ولم أكن قد تحدثت إليها لسنين كثيرة لأسباب لا أتذكرها. هي التي في الماضي كانت قد اعتنت بأشقائي وبي طوال ما يزيد على عقد فأصبحت بمثابة فرد من أسرتنا. كانت في منتصف الأربعينيات، تعيش مع أمها في البيت الذي ولدت ونشأت فيه بماساتشسوتس، وقد التحقت بعمل ما في البلدة.
عندما ردت على التليفون في ذلك اليوم وقالت لي إنها في الوكر، تصوَّرت على الفور ما قالته بمنتهى الدقة: السجادة الثقيلة، والأريكة العميقة المرتخية المكسوة ببطانية، والنافذة المواجهة للمنحدر المؤدي إلى الطريق. أدهشها اتصالي بها بعد كل ذلك الزمن، وكان اتصالي بها على غير توقع. بعدما نقلت إليها الخبر الذي كنت أريد نقله، قالت إن اتصالي بها في ذلك اليوم بالذات من جميع الأيام غريب تماما.
وسبب ذلك أنها كانت قد اكتشفت أن أمها أهملت دفع الضريبة العقارية لسنين كثيرة وأن البلدة توشك أن تصادر البيت. لعلي قدمت لها شيئا من التعاطف الكسيح. لكنني أتذكر قولها لي ونحن نوشك على إنهاء المكالمة “أعتقد أنك أقرب ما يمكنني أن أعرفه عن إحساس الأم تجاه الابن”. وليست تلك الكلمات أوضح ما أتذكره، بل وقعها في أذني.
كان لها وقع سطر في قصة قصيرة. قصة عن امرأة في الخمسينيات من عمرها تعيش في البيت الذي ولدت فيه ونشأت، وإذا بها تكتشف خبرا من شأنه أن يغيّر حياتها، وفجأة، وعلى نحو لا يخلو من غرابة، تتلقى اتصالا من الولد الذي كانت ترعاه، فتهزها المكالمة بطريقة ما، إذ ينجلي أمام عينيها أنه لن يكون لها ولد في يوم من الأيام. لم أستمع لسوزان ثم أفكر لاحقا في القيمة القصصية الكامنة في ما قالته. لم يتتابع الأمر على هذا النحو. بل حولت ما قالته إلى أدب. رأيتها في اللحظة نفسها شخصية لا شخصا، شخصية قد أهيمن على مصيرها في ورقة، فكان في ذلك وقاء لي من الواقع كما كنت أسمعه: واقع أن تلك المرأة التي ساهمت في تربيتي، فأحببتها حب الأطفال الكامل المجهول، ثم لم أرها إلا لماما منذ ذلك الحين، وبقيت بطريقة ما على حبها لي.
في مقالته عن الملك لير يقدم الفيلسوف ستانلي كافل تفسيرا مقتعا لأحد أقدم ألغاز تلك المسرحية. لماذا يعاقب لير ابنته كوردليا لرفضها محاكاة أختيها في طنطنتهما بعبارات المحبة الجوفاء الكاذبة لأبيهما؟ يكتب كافل أن لير ينبذها لأنها برفضها تزييف حبها بالكلام المبهرج إنما تفضح حبها الحقيقي له على الملأ. وهذا ما لا يمكن أن يتسامح فيه لير. بوسعه أن يقبل الحب الزائف لأنه لا يشترط الحميمية، ولا المعرفة بالذات، ولا اعترافا منه بضعفه وبفنائه. بينما يشترط الحب الحقيقي ـ في المقابل ـ تلك الأشياء جميعا. يخلِّص لير نفسه من كوردليا ليجتنب معرفة ذاته. وهنا مأساته.
لم يجر شيء دراماتيكي بيني أنا وسوزان. ولكن من النقاط التي يثيرها كافل أنه في مواسم معينة نكون جميعا لير. نتقي الحب لأنه يقدم نفسه لنا في صورة طلب واضح: اعترفوا بحاجات شخص آخر، وحاجاتكم بالتبعية، أدركوا أنه فان، وبالتبعية أنكم فانون. ولكلٍّ منا وسيلته لتحقيق هذا الاجتناب. فأنا كطفل وحيد، ثم ككاتب، حققته من خلال “نمط الاتصال الرثائي” الذي يختم على الحاضر، فيغلقه انغلاق الماضي.
وتلك طباع لا يسهل تغييرها. إذ نصبح إياها، وتصبح إيانا. ولكن ها هنا تظهر مفارقة الكتابة نفسها بوصفها هبة ما. فمهما كان قدر العزلة الذي تستوجبه الكتابة، تبقى سعيا إلى الاتصال.
في السنوات الخمس الأخيرة من محاولتي أسبوعا بعد أسبوع الحفاظ على إيماني بعالم مواز في الكتاب الذي كنت أؤلفه، خلقت أسرة خيالية، فيها من الشبه بأسرتي قدر غير قليل، ولكنها في الوقت نفسه مخترعة، مؤلفة من رغباتي، وألمي، وحاجتي إلى التأمل في تاريخ مفتوح مقيما منه سردية ذات معنى، وذات بنيان مفهوم الغاية. وهذه في تقديري غاية الفن. أن يعبر هوة انفصالنا العنيد باستعماله تجربتنا في خلق شيء يمكن الاشتراك فيه. وهكذا ينأى الفنانون بأنفسهم، ليرجعوها.
أغلب ما أفعله هو محاولة تخيل كيف أكون غيري من الناس لا أنا. فأكون في بعض الحالات من أحببتهم. وهكذا، بطريقة ما كنت لأعرفها، رجعت إليهم.
لآدم هازليت مجموعة قصصية بعنوان “لست غريبا هنا” وصلت إلى الترشيحات النهائية لجائزة بولتزر والجائزة الوطنية للكتاب، ورواية “الاتحاد الأطلنطي” التي فازت بجائزة لمبادا الأدبية ووصلت إلى قائمة جائزة كومونولث القصيرة. ترجمت كتبه إلى ثماني عشرة لغة وحصل على جائزة برلين من الأكاديمية الأمريكية في برلين، وجائزة بن مالامود، وزمالات مؤسستي جوجنهيم وروكفيلر. يعيش في نيويورك وتصدر روايته التالية بعنوان “تخيل أني رحلت”.
————-
عن مدونة الشاعر، المترجم أحمد شافعي
http://readingtuesday.blogspot.com.eg/2016/12/blog-post_26.html