لماذا على الإعلام أن يستثمر في القصص العميقة؟

عن نشرة «المحررون المصريون »

قد يعتقد البعض أن الصحافة العميقة تعنى التحقيقات الاستقصائية، والواقع أنه قد تكون أهمها، ولكن ليست كلها ولا تشكل أغلبيتها حتى.
في الحقيقة أن طبيعة رتم الحياة من حولنا، تفرض أن تحتل الأسئلة المتعلقة بـ ماذا حدث صدارة المشهد، ثم من فعل ذلك، وبعدها متى حدث ذلك، وأين تم ذلك، والتي تشكل أبرز مفاتيح أي قصة أو معلومة، وباتت تعدى منطق العمل الصحفي لمنطق التعاطي مع أي معلومات من حولنا، والتي تجمل في مفهوم 5W.

ويكتسب كل عنصر أهميته من وزن تأثيره في القصة، فحادث سير بسيط في قرية صغيرة في ريف مصر، لن يكون مثل حادث بنفس البساطة وربما أقل   في بقعة جغرافية ساخنة، لنقل مثلا أمام السفارة الأمريكية بالقاهرة؛ وإصابة رجل بكسر في رقبته، بل ربما وفاته، لن تكون مثل أهمية إصابة أحمد الشناوي، حارس مرمي منتخب مصر بتمزق في العضلة الخلفية.
فهذا نجم له اسمه ودوائر من المهتمين ومن المتأثرين والمؤثرين، وحدث أصابته ليست كمواطن عادي بالطبع، ومتى؟ في الدقائق الأولى من مباراة افتتاحية، وأين؟ في بطولة كبرى يتابعها ملايين المصريين. وهكذا تأخذ القصة أهميتها من توافر عنصر أو أكثر من الأهمية. (تفاصيل أكثر عن ما حدث لأحمد الشناوي من هنا)
ومن هذه العناصر، تخرج قصص المستوى الأول من العمق، سبب الاصابة، ومن المتسبب فيها، هل طبيب المنتخب، أم مدرب حراس المرمي، أم أرضية ملعب المباراة؟ وتأثير ذلك على فرص المنتخب في الصعود، والسيناريوهات البديلة. وهكذا يمكن أن ننسج عشرات القصص ذات المستوى الأول من العمق.
القصص العميقة تعنى ببساطة كل ما يتعلق بالإجابة على سؤال، لماذا وكيف؟ ومن خلالهم تخرج عشرات الأسئلة الجديدة، مثل: ماذا يعنى هذا، ولماذا يجب أن يفرح أو يحزن أو يتجاهله الجمهور حتى، وكيف سيؤثر ذلك على من؟ ومن هذا ما علاقته بالجمهور، أم أنه هو الجمهور نفسه؟ وما عمق ومدى هذا التأثير، ثم هل يجب أن نفعل شيئا، وأين وكيف، وما هو هذا الشيء؟ إلخ
والمستوى الثاني من القصص العميقة لديه مساحة أرحب في الانطلاق دون محددات بشخص أو زمان أو مكان، والذي قد يبدأ بتأثير الجينات المصرية على لاعبي كرة القدم، أو مستقبل حراسة مرمي منتخب مصر، أو مدى سوء تغذية اللاعبين المصريين، أو هل الأحمال التدريبية كثيرة، من المرشح لخلافة عصام الحضري، ما مستقبل مدرب المنتخب الأرجنتيني، وهكذا.
ولو نظرنا لخبر إصابة أحمد الشناوي كمثال، فعلى الأغلب تنتهي صلاحية الخبر نفسه خلال 24 ساعة، فالأخبار أصبحت منتج سريع التلف كما يصفها دائما المدرب المصري ياسر عبدالعزيز.
وغالبا ما تأخذ قصص العمق من المستوى الأول، شكل التقرير +فيتشر +حوار بتركيز منصب على الحدث ودوائره المباشرة، وهذه ربما تبقى صالحة لأسبوع حسب تطور الأحداث.
أما قصص المستوى الثاني من العمق، والتي غالبا ما تأخذ شكل التحقيق أو التقرير أو الحوار مع طبيعة أسئلة أكثر عمقًا، أو الفيلم التسجيلي أو مواد جرافيك أو التفاعلية، لذا تستغرق وقتا أطول، ولكنه أيضا لديها فرص أكبر للبقاء وللنشر واعادة النشر لفترات طويلة.
حسب تنصيف مؤسسة “الإبداع الإعلامي فقيمة الشرح والرصد والتحليل واستدعاء تعليق الخبراء على الأحداث، واحدة من القيمة الثرية جدا والمطلوب أيضا في صناعة المحتوى الأن، وهي قيم تندرج تحت بند الصحافة العميقة، التي تضم القصص المطولة التي يتجاوز بعضها الـ10 آلاف كلمة.
مثل قصة غزو الصينيين لأسواق الصعيد بالملابس الداخلية، التي قام بها بيتر هسلر محرر مجلة نيويوركر، ويوجد ترجمة مختصرة على موقع زحمة المصري، وغيرها من القصص وسلاسل الحوارات التي كانت تقوم بها الكثير من الصحف المصرية، ثم للآسف انحصر مؤخرا وجود هذا النوع من الصحافة، رغم أنه أكثر ملائمة لوضع الصحافة المطبوعة الآن.
طبيعية هذه القصص تستغرق وقتا أطول في الإعداد والتنفيذ، ومهارات دقيقة في الملاحظة والتقاط التفاصيل وسردها، بما يشبه العمل الأدبي المعجون بقيم وضوابط النقل الصحفية.
تماما مثل ما كتبه جاي تالير محرر مجلة “إسكوير” قبل أكثر من خمسين عامًا، عندما قابل 100 شخصية على علاقة بشخصية المطرب سيناترا الشهيرة، وجعلته هذه اللقاءات يرى سيناترا على حقيقته، دون أن يراه في الواقع أبدا، فكتب قصته الرائعة “سيناترا عنده برد”؟ وهو ما يمكن أن يطبق الآن على عشرات الشخصيات المصرية الشهيرة، مثل عمر دياب، عادل إمام، محمد أبوتريكة، أو حتى تلك التي رحلت، مثل نجيب محفوظ او سعاد حسني، وغيرهم من المشاهير.

الصحافة العميقة لديها بالتأكيد جمهور، فما السبب الذي يدفع محرر مجلة أمريكية أن يبحث في سر نجاح الملابس الداخلية في قلب صعيد مصر؟ السر يكمل في التفاصيل، في الرتم والحبكة، وفي مغذي الحدوتة، حتى لو كانت في الصين، وما أعظم ذلك عندما يكون منسوجا بوقائع حقيقية، ألم يسموا الصحافة “الأدب الحقيقي”
من الذي لا ينتبه عندما يشاهد فيلم مع عبارة “مأخوذ عن قصة حقيقة”.
هذا المنطق هو الذي يجعل الناس تهتم بوقائع حدثت قبل عشرات السنين، ولم تحصل على نصيبها من التركيز، مثل حريق القاهرة 1952 مثلا، أو المصريون مع نكسة 1976، أو حتى حقيقة قصة ريا وسكينة، المهم ان يخرج ذلك من حدث أو شخصية غنية بالتفاصيل تثير اهتمام الناس، وبالتأكيد مصر بحراكها وتناقضاتها وتنوعها وغزارة تاريخها غنية بعشرات من هذه القصص الشيقة.
وقد يكون تقديم هذه المنتجات الصحفية العميقة في إطار برنامج متخصص، أو موقع مستقل بذات، يعتمد مفهوم Micro Targeting، أو في إطار صفحة أو قسم ضمن الإطار العام للمؤسسة الإعلامية، مثل ما يحاول أن يقوم به قسم “المصري اليوم لايت“.
المشكلة الحقيقة أمام هذا المحتوى، تكمن  في وجود فريق عمل أو كاتب محترف ومتفرغ ومتمكن من أدواته، والنقطة الأخيرة قد تكون مشكلة حقيقة في مصر، فرغم توافر عناصر بشرية وخامات جيدة، لكن مناخ العمل لا يحفز في أغلب المؤسسات الإعلامية، ومساحات التدريب والتجريب ليست سالكة.

سبب أخرا يجب أن يدفع المؤسسات الإعلامية لكي تهتم بهذا النوع من المحتوى العميق، وهو أن واحدا من أهم المعايير عند قياس القيمة المالية لأي مؤسسة الإعلامية يحسب بقيمة المحتوى الذي تنتجه ومدى قدرته على البقاء، وإعادة الاستخدام، فهل قناة لديها آلاف من نشرات الأخبار والتقارير واللقاءات الصحفية، تستوى مع قناة لديها تحقيقات وأفلام تسجيلية وحوارات ومحتوى خدمي وترفيهي قابل لإعادة الاستخدام وإعادة البيع.
في عام 2009، استحوذت شركة ياهو العالمية على موقع مكتوب العربي، وبلغت قيمة الصفقة 175 مليون دولار تقريبا، والسر في هذا الرقم الكبير يكمن أن موقع مكتوب كان يملك أرشيفا غنيا جدا بالمحتوى الذي ما زال يجذب الجمهور، وكان يحقق لها يوميا أكثر من 40% من حركة الزيارات. وهذه تقريبا كانت أكبر صفقة عالمية في صناعة الإعلام عرفتها المنطقة العربية.
وهذا سبب مادي بحث يشجع المؤسسات على الإنفاق على الصحافة العميقة، لأن منتجاتها تبقي وتصبح من الأصول القيمة مع مرور الوقت.

إعداد: خالد البرماوي