أمام المقهى بمعرض الكتاب التقيت مصادفة بالشاعرة التونسية لمياء المقدم، وبصحبتها كاتبة هولندية شهيرة، هي كوني بالمن. جلسنا لدقائق قبل أن تبدأ ندوتهما، حيث جاءتا لتقديم رواية بالمن «أنت قلت» التي ترجمتها لمياء، وصدرت في سلسلة الجوائز عن الهيئة المصرية للكتاب.
بعد التعريف المتبادل الذي تولته لمياء، جاءت مشروباتنا. نظرت بالمن بغبطة إلى لون عصير الفراولة الذي طلبته. يبدو أنها كانت تبحث لنفسها عن شيء مبهج في رحلتها إلى القاهرة، وقد وجدته في الحمرة اللامعة بكوبها تحت الشمس؛ إذ سرعان ما عادت إلى صمتها.
قالت لمياء: «كوني تعرضت لموقف فظيع في الهرم أمس» وتركت لها التوضيح؛ فبدأت الكاتبة الهولندية تحكي بصوت خفيض، كأن الكلمات تؤلمها.
باختصار، غامرت بالذهاب وحدها لزيارة الهرم. التاكسي طلب مائة دولار (لا جنيه) وعلى مشارف الهضبة طلب أربيعنًا أخرى ليدخلها، وهناك، حدث ما يعرفه كل من يزور الهرم حتى من المصريين، تجمع سائسو الخيل المريضة والجمال الجائعة، وسماسرة العطور الرديئة. دفعت كوني ستمائة دولار في مغامرتها، أي نحو ١٢ ألف جنيه بأسعار التعويم، ولم تبق في خيالها عظمة الهرم، بل قسوة التجربة.
«المبلغ ليس مشكلة» قالت بالمن، وتبدد من مخيلتها غرام الشاعرين تيد هيوز وسيلفيا بلاث، الذي تتناوله روايتها البديعة، وأضافت بأسى: «حرفيًا، شعرت بأنني مختطفة، وما أدفعه هو الفدية». ظهر في صوتها الخوف، وكأنها تستعيد التجربة إذ تحكيها، ثم عادت إلى الصمت، ليحكي عبدالجليل العربي، الأستاذ بجامعة لشبونة الذي شاركنا الجلسة، قصصًا أخرى لن أعيد روايتها لأنه عربي ورجل، تمكن من المقاومة والمساومة والوصول إلى حلول وسطى مع الخاطفين!
خلطة التسول والبلطجة في الأماكن السياحية ليست جديدة، عمرها من عمر دولة مبارك التي تواجه برخاوة كل ما لا يتعلق بأمن النظام، لكن الظاهرة استفحلت منذ إحباط ما بعد ٢٥ يناير إلى اليوم. لكن الدولة تتظاهر بالرغبة في إنعاش السياحة، وتجهد ميزانيتها بالإعلانات المدفوعة، دون أن تضع مدونة سلوك ومواصفات قياسية للخدمات السياحية وأسعارها، من نظافة السائق وسيارته إلى نظافة المطاعم والمقاهي وسلوك ومظهر سائسي الهرم ودوابهم!
ما حدث مع كوني بالمن يحدث كل يوم، حتى أن الحكومة تعتبره عاديًا. الجديد في هذه القصة أن بطلتها كاتبة مهمة في بلدها، ومقالها أفضل من أي إعلان مدفوع، لو عادت من مصر راضية. هذا بمعيار الأنانية البحتة، بصرف النظر عن معايير الأخلاق والواجب وحسن الضيافة الذي يحلو لنا الحديث عنه.
كان على الهيئة، هيئة الكتاب، التي ترجمت الرواية واستضافت الكاتبة أن تكمل جميلها وتخصص للضيفة الأجنبية مرافقًا، وبالطبع كان من الممكن لوزارة السياحة أن تنسق مع الثقافة، وتنظم برنامجًا للضيوف الأجانب، على الأقل تكون فرصة لتذكير عدد من موظفيها بالعمل. هذه الحماية للضيوف من الكتاب لا تغني بالطبع عن العمل الجاد، في سبيل مغادرة موقع «شبه الدولة» والعودة إلى تقاليد الدولة، لكن للأسف، تبدو الإدارة بكل مواقعها مستمتعة بدولة الحد الأدنى، وتريدنا أن نشاركها في حمد الله على أننا لسنا مثل سورية أو العراق.
أظن أن دولة الحد الأدنى أقل من طموح المصريين. وإذا كان السيسي يسائلنا: ماذا قدمتم؟ أقول: في صميم اختصاصي ككاتب، قدمت هنا قصة كوني بالمن، وعلى الحكومة أن تفعل ما عليها أن تفعله.
—— رابط المقال الأصلي في المصري اليوم:
http://www.almasryalyoum.com/news/details/1085161