جزيرة يصلها الاثنان فيغادران ثلاثة

تشبث جمال بسياج العبَّارة، يتأمل المشهد. البيوت المتدرجة فوق الجبل التي كانت غائمة كقوارب بيضاء صغيرة متناثرة بين الأشجار الكثيفة، أخذت تتضح لحظة بعد أخرى، وتبدو شرفاتها وشبابيكها الملونة.

ردد كالحالم:

ـ هذا غير معقول. غير معقول.

أخذت خديجة تتأمله، إذ يخرج تليفونه ويشرع في التصوير.

هتف مجددًا:

ـ  معقول؟!

وحدَّق في عينيها المشبعتين بالحب، تأمل ملامحها فرأها جميلة، جميلة جدًا، أجمل مما اعتقد حتى هذه اللحظة. احتضنها وقبّلها على شفتيها. أغمضت عينيها وعضت شفته حتى آلمته.

توقفت العبّارة وبدأ المسافرون في نزول السلم.

على الرصيف وقف كهل يحمل لافتة «السيدة والسيد البابي» لوحا له؛ فقطع معبر الجنزير الخشبي المتأرجح مهرولاً، أخذ عنهما الحقيبتين الكبيرتين، هبت نسمة لطيفة من فوق الجبل غطت على رائحة وقود العبّارات في المرفأ فملآ صدريهما متطلعين نحو البيوت.

حافظا على توازنهما وراء الرجل حتى صارا على اليابسة. رفع الحمّال الحقيبتين إلى عربته الصغيرة، وانطلق أمامهما يتلوى كالثعبان، فاتحًا الطريق وسط زحام الخارجين والداخلين على اللسان الحجري الرفيع، حتى صاروا في مدخل المرفأ. كانت في انتظارهما سيارة مكشوفة، يقف بجوارها شاب وسيم، من ذلك النوع الممشوق الذي أوقعت به السينما نساء العالم في إغواء الرجل الإيطالي.

حيّاهما:

 Buongiornoـ .

قالها ممطوطة وأكثر تنغيمًا من buongiorno روما. وعرَّف بنفسه:

ـ ماريو.

مد يده مصافحًا، ثم فتح لهما البابين الخلفيين للسيارة، وأشار إلى الحمّال كي يمضي بالحقائب.

 استقرا في المقعد الخلفي بالسيارة، ودار ماريو يراجع حُسن إغلاق البابين، ووقف ينتظر السيارات الأخرى أمامه. سألهما:

ـ هل ألتقط لكما بعض الصور؟

 ناوله جمال تليفونه، واحتضن خديجة. شرع يُصورهما من زوايا مختلفة، وأعاد التليفون لجمال، وهرول ليجلس إلي عجلة القيادة. جلسا يستعرضان صورهما بخلفية الورود والممر الصاخب بالبشر. بدت لقطات زفاف من فيلم سينمائي.

أخرجت خديجة تليفونها، وألقت بنفسها في حضنه وشرعت تلتقط الصور، بينما أخذ ماريو يتحين الفرصة للانطلاق. انتهز أول ثغرة انفتحت وسط الزحام، واندفع يقود كبهلوان في الطريق الصاعد الملتوي.

همس لهما:

ـ  أنتما عروسان؟

ردَّت خديجة:

ـ نعم.

وأومأ له جمال في المرآه مؤمِّنًا على إجابتها بسرور، ثم راح يتأملها في فستانها المُخرَّم الأبيض وقبعتها القش الأنيقة، كأنه يراها للمرة الأولى. فكّر«هي عروس، أما أنا…».

تطلع إليهما ماريو مجددًا في المرآة، وسألهما:

ـ هل تعرفان القول المأثور عن كابري؟ 

ردت عيونهما متسائلة؛ فأجاب:

ـ يجيئها الاثنان؛ فيغادران ثلاثة.

من «يكفي أننا معًا”