معبد للحب والأسى

عندما اقتربا من الفيلا، صافحهما الهدوء الذي جعل السحالي تزحف مطمئنة تحت أشجار تنتمي إلى مناخات مختلفة، بينما تدوّم جماعات من النحل، كأنها تحرس السر الذي يلف هذه البقعة النائية.

أدارت خديجة سبابتها مشيرة إلى المكان من كل اتجاه: البحر، الفيلا، والحديقة المتدرجة على الهضاب:

ـ  ما أجمله من منفى!

أومأ جمال موافقًا، دون أن ينبس.

 تقدمته باتجاه الساحة الصغيرة للفيلا التي تفصل البحر عن الدرج المرمري الواسع لمدخلها. وأشارت إلى تمثال لصبيٍ عارٍ يتوسط الساحة متزنًا على ساق واحدة، محنيًا يستخرج بيديه شوكة من ساقه الأخرى المرفوعة.

ـ انظر كيف ينطق الدلال من المعدن الصلب.

أخذا يدوران حول التمثال من كافة زواياه. باستثناء زقزقة العصافير وصفير صرصار الحقل لم يكن هناك ما يخدش هدوء المكان سوى فوج من الاسكندنافيين يتبادلون التقاط الصور على الدرج؛ فشرعت تحكي له عن صاحب الفيلا فيرسين، رجل الصناعة والشاعر الفرنسي، الذي حوكم بتهمة اغتصاب قاصر؛ ففر ليلتقط  صبيًا آخر من روما ويصحبه إلى هذه البقعة النائية.

أخذ جمال يُقلّب وجهه بين الفيلا والتمثال الرقيق، وقال:

ـ يوحي بالحزن، أكثر من الدلال.

دققت النظر في التمثال وأومأت موافقة، عاد ليسألها:

ـ إذا كان صاحب الفيلا اسمه فيرسين؛ فمن أين جاء اسمها «ليسيس» هل هو اسم عشيقه؟

ـ ليسيس، هو أحد الشباب في محاورات أفلاطون.

انصرف الآخرون، فتقدمته خديجة لارتقاء الدرج.

ـ انظر!

ونبهته إلى الكلمات اللاتينية المكتوبة بالجص المذهب فوق مدخل الفيلا «معبد للحب والأسى».

 في المدخل وجدا موظفة أربعينية رحبت بهما، وبسطت  أمامهما خريطة الفيلا، وأخذت تؤشر لهما:

ـ يمكنكما أن تبدآ من هنا، أو من الطابق الثاني، أو من الطابق تحت الأرضي، كما تحبان.

أخذت خديجة تستمع إلى ما تعرفه من قبل مبدية الامتنان، بينما كان جمال يتأمل الموظفة وهمس في أذن خديجة:

ـ هل يبدو ذبولها طبيعيًا في هذه الجنة؟

ـ الاعتياد قاتل، وهي هكذا منسجمة مع حياة صاحب الفيلا الذي انتحر بجرعة كوكايين زائدة.

تناولت يده ومضت لارتقاء الدرج الذي يقود إلى طابق المعيشة، مستعيدة سمت مُعلِّمة تاريخ الفن.

ـ تحمل الفيلا روح بدايات القرن العشرين، يجمع أسلوبها بين النيو كلاسيك والآرت نيفو.

في صعودهما المتأني درجة بعد أخرى، أخذ جمال يتأمل تفاصيل الفيلا دون أن يُعلَّق، بينما تابعت خديجة موضحة:

ـ تأمل استخدام الحديد في الدرابزين، الانحناءات في الزخارف المذهبة من الزهور والشرائط والحروف اللاتينيه، من الآرت نيفو، بينما يغلب النيوكلاسيك على جوهر الفيلا: الأعمدة الرومانية والأقواس والشرفات.

 صارا في طابق المعيشة، وشرعا يتفقدان الغرف. كل شيء بالطابق بسيط يجلله سكون حزين، باستثناء الحمّام الفسيح المشرف على البحر والحديقة، يتوسطه حوض استحمام دائري من المرمر الوردي، مع صنابير من النحاس ومرايا ضخمة. لاتزال تتصاعد منه طاقة حسية، كأنه شهد مطاردات العاشقين بالأمس. تقمص جمال دور المرشد. هنا كان يخلع ملابسه، يعلقها على هذه المشاجب، ثم يخطو هكذا خطوتين، ويتوقف هنا ليتأمل الصبي اللاهي في البركة يتلاعب الماء الصافي بعريه، سيخطو نحوه، يضع قدمًا في الماء يستطلع درجة الحرارة، يخطو بالأخرى وينساب داخل الماء، يستلقي في هذه الجهة، يمد ساقيه يجذب بهما الصبي المستلقي المستلقي في الجهة الأخرى.

هبطا الدرج، مجددًا، أومآ بالتحية للموظفة، وسارا إلى صالة الاستقبال الواسعة التي لا تضم سوى صالون وحيد من كنبتين وكرسيين. جلست خديجة على أحد الكرسيين، وأعطت جمال تليفونها وقالت:

ـ صورني.

التقط لها عدة صور، ثم جلس إلى جوارها والتقط لهما سيلفي، ثم ناولها تليفونها، وشرع يلتقط أخرى بتليفونه.

عندما خرجا إلى الشرفة الفسيحة التي تجلل الطحالب برامق وسطح سياجها، أخذ جمال يتأمل احتضان البحر للفيلا من ثلاث جهات، أحس بتحرره من الحزن، فالطابق المغمور بالضوء يشبه الكثير من الفلل، باستثناء الإطلالة الفريدة على صخب البحر. استلقى على أرضية الشرفة مغطيًا عينيه بذراعيه، وأخذت خديجة تلتقط له الصور ضاحكة.

نهض بعد لحظات من الراحة، وحملها بين يديه. تعلقت برقبته، بينما يُقبلها بتأنٍ. عندما تركها أخذت يده، ومضت تقوده من الشرفة إلى صالة استقبال فالممر، حيث الدرج الهابط.

أشارت إلى اللافتة بجوار باب صالة كبيرة «غرفة الأفيون». انسابا من الباب إلى الغرفة الخالية من أية قطعة أثاث باستثناء سجادة تغطي دائرة منخفضة في الوسط، وتتناثر فوقها الحشايا.

قالت:

ـ هنا كان يسهر مع أصدقائه.

مضي جمال نحو النافذة متحاشيًا دائرة المرمر بفرشها الشرقي، رأي الماء يضرب حاجز الأمواج الصخري الملتصق الذي يُدعِّم أساس البناء. تطلع إلى البحر مبتهجًا:

ـ غياب العقل في هذا المكان لا يحتاج إلى مخدر!

أشارت خديجة مبتسمة إلى باب صغير:

ـ هذه الغرفة الصغيرة كان يستخدمها كخلوة مع الصبي.

فتحا الباب فصارا في فضاء الغرفة المظلمة، رد جمال الباب خلفهما، وهتف:

ـ اشتهيتك.

أحست في النبر القوي لكلمته برياح خماسين تلف جسدها، وتكاد تُطيرها في الهواء. الإحساس ذاته الذي أحسته عندما رأته في بهو المحكمة للمرة الأولى.

ــــــــــ

مقطع من «يكفي أننا معًا»