إعلام الكسكسي بالحمص!


منذ بدأت حركة استبعاد النابهين المهنيين من القنوات المصرية توقفت عن مشاهدة هذه القنوات، وليس في سلوكي هذا أي تميز. سلكت كما سلكت الملايين وقد تحول جانب منها إلى قنوات دولية ذات مصداقية، بينما يمم جانب آخر وجهه شطر قنوات الإخوان.
الصدفة وضعتني الليلة أمام تليفزيون مفتوح على قناة الحياة، حيث تامر أمين، كان يتحدث عن الإرهاب، ولا عيب في هذا، وشرع يذيع بيان الداخلية حول مفجر كنيسة مارمرقس في الإسكندرية، متوقفًا أمام وظيفته (عامل في إحدى شركات البنرول) قالها هكذا: (يعمل كعامل في إحدى شركات البترول) ثم بدأ يوضح كيف أن مرتبات شركات البترول جيدة لدرجة ان من يعمل بها يُنظر إليه كما لو كان في إعارة للخليج، وكان هذا توطئة لكي يسخر ممن يقولون إن الاتجاه للإرهاب بسبب الفقر والكسكسي بالحمص والكلام ده!
وبين جملة من هذا النوع وأخرى يشخط في المشاهدين (خلوا بالكو من الكلام المهم اللي بقوله دي الوقت) ثم خارجًا عن السياق يتفوه بكلام إخر، وينبه المشاهدين مش ليكم أنا بكلم الفريق بتاعي! بعد ذلك كان لابد أن يشكر الداخلية على روعة البيان، دون أن يوضح وجه الروعة، ثم يعلن أنه أصابه بالذهول، ويبدو أنه خشي أن يُفهم على وجه آخر، فصحح: أذهلني ما جاء في البيان مش البيان نفسه!

وبالمرة هاجم القنوات ووسائل الإعلام الأخرى التي حاولت تقصي الجريمة ولم تنتظر بيان الداخلية، مستنكرا(دا شغلك؟!) ثم أعلن أنه وفريقه لم ولن يشاركوا في جريمة كهذه (جريمة استباق الداخلية ).
ثم أخذ يثني على نفسه مجددًا لأن لسانه زل وقال إن من بين مضبوطات الخلية الإرهابية التي ينتمي إليها المتهم كتبًا تفجيرية بدلا من ان يقول تكفيرية، أخذ يكرر أن الغلطة جاءت في محلها تماما، و ترك المشاهدين مخاطبا فريقه كي يسعفوه بذكر عنوان كتاب سيد قطب الذي لم يزل يباع، وينادي بكل حرية، دون اعتبار للمشاهدين الذين عليهم أن ينتظروا فتح الله المبين على أحد محرري البرنامج كي يسعفه بعنوان الكتاب. وأخذ يردد اسمه ايه اسمه إيه، والفريق لا يسعفه، واستدرك: معالم الطريق، مش اسمه كده؟
كانت دقائق من هذا الأداء كفيلة بتشتيتي فطلبت من مضيفي برفق إغلاق التليفزيون.
لم يشوشني الأداء غير المهني الذي أصبح سمة عامة، حيث ينضح المذيعون بما عندهم ويفعلون ما يحلو لهم وكأنهم في بيوتهم بين أطفالهم. بل شوشتني الرؤية التي تقف خلف تجريد الفضاء الإعلامي من الكفاءات. ماذا يدور في الرؤوس التي هندست هذا الوضع للإعلام المصري؟ هل هم سعداء بأن إعلام الدولة الخاص والعام لم يعد مقصدا لأحد عند البحث عن خبر؟! هل قيموا مردود الملايين التي أنفقوها على الشبكة العملاقة الجديدة؟ أليس هناك من ينتبه إلى أن المحتوى لا اسم القناة هو الذي يجلب المشاهدين؟

هل رضى من يتحكمون في الأمور بنفس رضى تامر أمين عن نفسه؟

كل هذه الأسئلة غير ضرورية لو كان الأمر يتعلق بالإعلام فحسب؛ فقبل التليفزيون بل قبل الصحافة المكتوبة عاش العالم راضيًا، لكن المشكلة أبعد للأسف.

إذا كنا نثق بفكرة الأنساق، فإننا لابد أن نكون متأكدين أن ما يجري في كل القطاعات متواز مع ما يجري في الإعلام، وباتصال الخط على استقامته فحال التعليم والصحة والأمن ليس بأفضل من حال الإعلام، ومجموع هذا التركيع هو حال هذا البلد الحزين.