احك لنا حكاية الملعقة يا خالة

نهاية كانديا

قصة الإيطالي جابرييل دانونسيو

ترجمة: نجلاء والي

Georges Washington Lambert

كانت دونا كريستينا لامونيكا تعد المفارش وأدوات المائدة الفضية بعد مرور ثلاثة أيام علي وليمة عيد الفصح، والتى كانت كعادة أهل بيت لامونيكا وليمة فاخرة عامرة بالمدعوين، ثم ترصها في نظام بالغ داخل الأدراج والصناديق الخاصة بها  في انتظار الولائم التى ستقام في المستقبل.

وكالعادة كانت الخادمة ماريا بيزاتشا تساعدها مع الغسالة كانديدا ماركاندا والتى كانوا يطلقون عليها اسم كانديا.  كانت السلال الواسعة تصطف فوق الأرض وقد امتلأت بالأقمشة الغالية.  وآنية الفضة وأدوات المائدة الفضية المتلألئة فوق صينية؛ وكانت كلها من القطع الثقيلة التى يشكلها صانعو الفضة القرويون بأشكال الأيقونات الدينية وكانت تنتقل من جيل إلي آخر في العائلات الغنية.

كان شذا الملابس المغسولة المنشورة بالحجرة يفوح.

كانت كانديا تلتقط من السلال  الأسمطة الكتانية والشرائف وتظهرها للسيدة لتتأكد من سلامة القطعة ثم تناولها لماريا قطعة تلو الأخرى وتضعها فوق الأسطح للتجفيف بينما تنثر السيدة العطر في ثنايا المنسوجات وتكتب عددها في الدفتر.

كانت كانديا امرأة طويلة بارزة العظام نحيلة الجسد. كانت تبلغ حوالى الخمسين عاما،  تقوس ظهرها من كثرة العمل في غسل الملابس، كانت ذراعاها طويلتان ولها رأس طائر كاسر فوق عنق غطته التجاعيد. كانت ماريا بيزاتشا  من مدينة أتورنوا، ممتلئة الجسد، بيضاء البشرة، ذات عينين فاتحتين. كانت تتحدث وتتحرك بتؤدة كدأب من اعتاد تحريك يديه في عجين الحلوى لصنع الفطائر والاطعمة المجففة. كانت دونا كريستينا أيضا من مدينة أوتورنوا، وقد تلقت تعليمها بدير بنديتو. كانت قصيرة القامة و ممتلئة عند الخصر والبطن بينما يميل شعرها للون الأحمر  وكان النمش يغطى وجهها وأنفها الطويل الضخم ، قبيحة الأسنان، أما عيناها فكانتا رائعتان جميلتان وقحتان مثل عيني قسيس يرتدي ثياب نساء.

كانت النساء الثلاث تعملن بكل تركيز وقد أنفقن معظم الظهيرة لإنهاء العمل.

 بعد انصراف كانديا بالسلال الفارغة، عادت دونا كريستينا لحصر أدوات المائدة، فوجدت ملعقة ناقصة.

صرخت دونا كريستينا بفزع:

  • ماريا! ماريا! عدي! تنقص ملعقة
  • عدي بنفسك

أجابت ماريا:

  • كيف هذا؟ لا يمكن أن يحدث ياسيدتى، فلنر الآن

وأخذت ماريا تعد وتطابق أدوات المائدة بصوت مرتفع. كانت دونا كريستينا تنظر محركة رأسها. وكانت الفضة تصدر طقطقة واضحة .

قالت ماريا متعجبة بحركة تدل علي نفاد الحيلة:

  • حقا! والآن ماذا سنفعل؟

كانت ماريا لاتطاولها الشكوك فقد برهنت على حسن  أخلاقها وأمانتها طوال خمسة عشر عاما، أثناء عملها في بيت تلك العائلة. وكانت قد حضرت من مدينة اوتورنوا مع السيدة كريستينا عند زفافها،  وكأنها جزء من جهاز العروس، والآن اكتسبت سلطة في البيت تحت حماية السيدة.

كانت شديدة الإيمان والالتصاق بقديسيها وكنيستها، وكانت شديدة الدهاء. وقد تحالفت مع سيدتها فاتفقتا علي كراهية كل ما يمت لبسكارا بصله، وخصوصا قديسيها. كانت فى كل مناسبة تعدد مآثر بلدتهم، جمالها و ثرائها وبهاء كاتدرائيتها و كنز القديس توماسو وعظمة الاحتفالات الدينية أمام ضآلة قديس هذه المدينة الذى لايملك سوى ذراع صغيرة من الفضة.

قالت دونا كريستينا:

  • انظري جيدا هناك

خرجت ماريا من الحجرة لتبحث فتشت في كل أرجاء المطبخ والتراس دون جدوى. وعادت خاوية الوفاض قائلة:

  • لا يوجد شيء ! لم أجد شيئا!
  • عندئذ بدأت الاثنتان في التفكير، تخيلتا مؤامرات وفتشتا في ذاكرتيهما. خرجتا إلي الشرفة المطلة علي الفناء، ثم إلي الشرفة المخصصة للغسيل، وقامتا بمحاولة أخيرة للعثور علي الملعقة. كانتا تتحدثان بصوت مرتفع، فأطلت الجارات من نوافذ البيوت المحيطة وبدأن يسألن:
  • ماذا حدث دونا كريستى؟ أخبرينا! أخبرينا!

حكت دونا كريستينا وماريا االواقعة بكلمات وإشارات كثيرة.

  • يايسوع! يايسوع ! إذن هناك اللصوص؟؟

سرى خبر السرقة بين بيوت الجيرة في بسكارا كلها في لحظة واحدة. أخذ الرجال والنساء يتناقشون ويتسائلون عن اللص.

وعندما وصل الخبر إلي حى “القديس أوغسطو”، اتسعت الحكاية وتشعبت، ولم يعد الأمر مجرد ملعقة بل أصبح كل فضيات بيت لامونيكا.

كان الجو صحوا في ذلك الوقت، وازدهرت  الزهور في الشرفة، كان طائرا حسون يشدوان في قفصهما، وكانت الجارات تتسلين في النوافذ وتستمتعن بالثرثرة في الجو الجميل. كانت روؤس النساء تطل من بين آنية الرياحين وبدت القطط وكأنها تتسلي بالثرثرة صاعدة وهابطة فوق أنابيب صرف مياه الأمطار.

قالت دونا كريستينا وقد ضمت يديها:

  • من يكون قد أخذها؟

دونا سيرتالي الملقبه بخز الزان،  وكانت حركتها سريعة وخاطفة مثل حيوان صغير مفترس. وسألت بصوت حاد:

  • من كان معكما دونا كريستى؟ يهيأ لي أنني رأيت كاندى أثناء مرورها…

تعجبت دونا فليشيتا مارجاسنتا الملقبة بطائر العقعق لإصدارها المتكرر أصواتًا تشبه الزقزقة قائلة:

  • آه!

ورددت الجارات الآخريات:

  • آه ولم يخطر ببالكما شيء؟
  • ولم تلاحظا شيئا؟
  • الا تعرفان من هى كانديا؟
  • سنخبركما نحن من هى كانديا!
  • بالتأكيد!
  • سنخبركما نحن!
  • تغسل الملابس جيدا، لا يمكن االتشكيك في ذلك. بل هى أفضل غسالة في بسكارا لا يمكن أن نقول شيئا في هذا. ولكن  يعيبها طول يدها .. ألم تعلما بذلك ؟
  • اختفى من عندى ردائين.
  • وأنا سماط.
  • وأنا قميص.
  • وأنا ثلاثة أزواج من الجوارب.
  • وأنا غطائين وسادة.
  • وأنا تنورة جديدة.
  • ولم أعثر علي شيء.
  • ولا أنا.
  • ولا أنا.
  • لم اطردها فمن يحل مكانها؟ سيلفسترا؟
  • اه؟ اه؟
  • انجيليوتنيا؟ باباشيتا؟
  • كل منها أسوأ من الأخرى!
  • ينبغى الصبر.
  • ولكن الآن ملعقة!
  • هذا كثير!
  • لا تتركي الأمر هكذا دونا كريستي، لا ينبغي السكوت عن هذا الأمر!

انفجرت ماريا بيزاتشا :

  • تسكت ولا تسكت

وكانت بيزاتشا، علي الرغم من مظهرها الهادىء والوديع ،لا تفوت فرصة لنيل من أو تشويه سمعة أحدا من خدم المنزل. وأردفت:

  • سنتولى الأمر دونا ايزبا، سنتصرف.

واستمرت وتتابعت ثرثرة الشرفة. وانتقلت التهمة من فم لأخر وانتشرت بالبلدة كلها.

2

وفي اليوم التالي بينما كانت كانديا ماركاندا تغمر ذراعيها في الصابون،  ظهر علي عتبة الباب حارس البلدية بياجيو بيشي الملقب بالعريف الصغير وقال للغسالة:

  • السيد العمدة يريدك فورا في البلدية.

سألت كانديا عاقدة حاجبيها دون أن تكف عما تفعله:

  • يريدني؟ ولما؟ تابعت التساؤل بلهجة حادة،  فلم تكن تعلم لمن تعزى هذا الأستدعاء المفاجئ وقد احتد غضبها كما تفعل البهائم أمام الظل.

أجاب العريف:

  • وأنا لا أعرف السبب. لقد تلقيت الأمر.
  • أي أمر؟

والمرأة العنيدة بطبعها لم تتوقف عن طرح الأسئلة. ولم تقتنع بالذهاب.

  • العمدة يريدنى؟ ولماذا؟ و ماذا فعلت؟ لاأريد الذهاب. أنا لم أفعل شيئًا.

رد العريف وقد نفد صبره:

لا تريدين المجيء؟ احترسي لنفسك !

وانصرف واضعا يده فوق مقبض السيف القديم وهو يتمتم.

اثناء ذلك خرج بعضهم في الزقاق، وكانوا قد سمعوا الحوار بين كانديا والعريف،  وخرجوا الي الأبواب وأخذوا ينظرون إلي كانديا وهى تحرك الصابون بذراعيها ولأنهم كانوا يعلمون بحكاية الملعقة الفضية، كانوا يضحكون فيما بينهم وينطقون بكلمات مبهمة، لم تكن كانديا تفهم منها شيئا. استولي الاضطراب علي قلب المرأة امام تلك الضحكات والكلمات وزادت حدته عندما عاد العريف ومعه حارس اخر.

قال العريف بإصرار :

  • امش

نشفت كانديا ذراعيها في صمت ومشت عبر الميدان وكانت الناس تتوقف لتشاهدها.

وأطلقت عدوتها اللدودة روزا بانارا ضحكة وحشية، واقفة فوق عتبة الدكان:

  • اخرجى المسروق.

لم ترد الغسالة التائهة، والتى لم تكن تدري سبب ذلك الاضطهاد.

وقفت مجموعة من الأشخاص أمام البلدية بدافع من الفضول لتراها اثناء مرورها. صعدت كانديا السلم بسرعة، وقد استولت عليها مشاعر الغضب ووقفت امام العمدة لاهثة وسألت:

  • ماذا تريدون منى؟

ظل دون سيلا الرجل الهادئ الطباع للحظة متكدر من الصوت الحاد للغسالة، وأدار بصره ناحية حارسيه المخلصين، ثم قال، وهو يتناول التبغ من العلبة العاجية:

  • اجلسي يا ابنتي.

ظلت كانديا واقفة. وقد انتفخ انفها المقوس من الغضب وكانت وجنتيها المجعدتين ترتعشان عند حركة فكيها.

سألت:

  • اخبرني دون سي

رد العمدة:

  • بالأمس أعدت الملابس المغسولة لدونا كريستينا لامونيكا؟

سألت كانديا:

  • وماذا في ذلك؟ وماذا في ذلك؟ هل ينقص شئ؟
  • لقد اعدت القطع بالعدد قطعة قطعة كاملة. الآن ماذا حدث؟

قاطعها العمدة:

  • لحظة يا ابنتي، كانت بالغرفة الفضيات….

كانديا وقد خمنت الأتهام، ااستدارت مثل نسر صغير غاضب يهم بالانقضاض علي فريسته. وكانت شفتاها الرقيقتان ترتعشان.

أردف الرجل:

  • كانت هناك فضيات بالغرفة، و اكتشفت دونا كريستينا ضياع ملعقة. هل فهمت يا ابنتي؟ هل اخذت الملعقة بطريق الخطأ؟ قفزت كانديا مثل الجندب امام هذا الإتهام الظالم. في الحقيقة لم تأخذ شيئا ورددت:
  • أنا؟ أنا من قال ذلك؟ من شاهدنى؟ تدهشنى دون سي، تدهشنى ! انا لصه؟ أنا؟ أنا؟

شعورها بالأسي كان بلا نهاية. وكانت التهمة جارحة لانها شعرت بانها قادرة علي الاتيان بما يتهمونها به.

قاطعها دون سيلا وقد تراجع في آخر المقعد الوثير الفخم بحذر:

-إذن لم تأخذيها؟

رددت المرأة من جديد محركة ذراعيها الطويلتين مثل عصايتين:

  • تدهشنى بهذا الاتهام!
  • رد العمدة:
  • حسنا، انصرفي وسنرى فيما بعد.

خرجت كانديا دون إلقاء التحية مصطدمة بإطار الباب. شحب وجهها: أخرجها الغضب عن صوابها.

وعندما وضعت قدميها علي الطريق ورأت الناس وقد اتقفت علي إدانتها، فهمت أن أهالي البلدة قد تحالفوا ضدها، وأنها لن تجد من يصدق ببرائتها إلا انها بدأت تصرخ ببرائتها. كانت الناس تضحك منصرفة من حولها. عادت إلي بيتها غاضبة؛ شعرت بالقنوط الشديد؛ وجلست تنتحب فوق عتبة الباب. قال لها دون دوناتو برانديمانتي والذي كان يقطن بالقرب منها ساخرا :

  • ابك بصوت عال ابك بصوت عال  فالناس تمر في هذه الساعة.

وكان لديها العديد من قطع الملابس التى ينبغى نقعها، فهدأت وشمرت عن ساعديها وبدأت العمل. أثناء عملها كانت تفكر في دفع التهمة عنها وتخطط طريقة للدفاع عن نفسها، كانت تبحث في عقلها بمكر المرأة عن وسيلة تثبت بها براءتها؛ كانت تفتش في عقلها وتستغل كل اساليب الجدل الشعبي للوصول إلي منطق يقنع غير المتشككين. ثم  خرجت بعد انتهائها من العمل.  كانت تريد الذهاب أولا إلي دونا كريستينا. لم تشأ دونا كريستينا الظهور. استمعت ماريا بيزاتشا إلي كلمات كانديا الكثيرة وهى تهز رأسها دون ان تجيبها وانسحبت بشموخ.

عندئذ طافت كانديا ببيوت كل سيداتها، وحكت لكل منهن ما حدث ودافعت عن نفسها وكانت تضيف موضوعًا جديدًا، وتزيد من كلماتها وتزيد حميتها ويسيطر عليها الأسي أمام عدم التصديق والشكوك ولم يجد نفعا أي من ذلك وشعرت أنه لم يعد من الممكن الدفاع عن نفسها. سيطر عليها شعور بالإحباط واليأس؛ استولي علي روحها.

  • ماذا عساي أن أفعل أكثر من ذلك! ماذا عساي أن أقول أكثر من ذلك!

3

وفي تلك الأثناء أرسلت دونا كريستينا في طلب تشينجيا وهى امرأة من الطبقة الشعبية الفقيرة كانت ذائعة الصيت في ممارسة السحر والعلاج بوصفات الاعشاب. وكانت قد اكتشفت اشياء مسروقة في بعض الأحيان وكانت تقول إن لها طرقًا خاصة مع اللصوص.

قالت لها دونا كريستينا:

  • اعثري لي علي الملعقة وساعطيك مكافأة سخية،

ردت تشينجيا:

  • حسنا تلزمنى أربع وعشرين ساعة.

وبعد أربع وعشرين ساعة أتت بالرد. الملعقة توجد في حفرة في فناء بالقرب من البئر. نزلتا كريستينا وماريا إلي البئر فتشتا عن الملعقة، ودهشتا كثيراً عند العثور عليها. ذاع الخبر في بسكارا كلها . عندئذ  شعرت كانديا ماركاندا بزهو النصر فجابت الطرقات. وقد بدت أطول قامة كانت ترفع رأسها وتبتسم وتنظر مباشرة في أعين من يقابلها كما لوكانت تقول:

  • أرأيتم؟ أرأيتم؟

كانت الناس عند مرورها، تغمغم ببعض الكلمات ثم تنفجر ضحكات فجة ذات مغزى. فيليبو لاسيلفي والذى كان يتناول كأسًا من الخمر القوى بمقهى دانجيلاديا نادي كانديا وسألها:

  • هل تودين كأسًا من هذا الخمر لكانديا؟

والمرأة التى كانت تعشق الخمر القوي تحركت شفتاها بحركة تنم عن الرغبة في الشراب.

أضاف فيليبي سيلفي:

  • أنت تستحقينه لاداعي للشكر.

وكانت قد تجمعت حول المقهي مجموعة من العاطلين وقد ارتسم علي وجوههم تعبير مرح.

التفت فيليبو لاسيلفي إلي المجتمعين بينما كانت المرأة تشرب الخمر:

  • عرفت كيف تفعلينها؛ أليس كذلك أيتها الثعلبة العجوز.. وخبط بيده فوق كتف الغسالة

 المُعضّم  بإلفه.

ضحك الجميع. آكل الفول، رجل قصير أحدب أحمق ألثغ، ضم إبهام اليد اليمني وإبهام اليسري مشددا علي مقاطع كلماته:

  • كا…كا…كا كانديا …. تش…تشينجيا واستمر في الإشارة والغمغمة بشكل ماكر ليشير إلي أن كانديا وتشينجيا صديقتان . وأمام ذلك المشهد تلوى الجميع من الضحك في مرح.

بهتت كانديا وكانت لاتزال ممسكة بالكاس. وفجأة أدركت: – انهم لايصدقون براءتها. يتهمونها بأنها أعادت الملعقة سرًا بالاتفاق مع الساحرة كي تتجنب المشاكل. استولت عليها نوبة غضب عمياء لم تجد معها كلمات ترد بها عليهم.  فانقضت علي أضعف الموجودين الأحدب الصغير وانهالت فوقه لكمًا ونبشت أظافرها في جلده. تحلقت الناس في دائرة أمام هذا المشهد بسعادة قاسية كما لوكانت تشاهد عراكًا بين حيوانين وكانت تحرض الطرفين بالكلمات والإشارات.

آكل الفول وقد ارتعب من ذلك الغضب المفاجئ، كان يحاول الهرب ويرفس مثل قرد صغير، وقد سقط ، ثم وقع بين يدي  الغسالة البشعتين، فكان يدوربسرعة متزايدة مثل حجر في نبلة إلي أن سقط بعنف علي وجهه. جرى بعضهم لمساعدته وابتعدت كانديا وسط أصوات الصفير؛ ذهبت إلي المنزل وحبست نفسها.

ارتمت  فوق سريرها، كانت تنتحب وتعض أناملها من شدة اليأس والألم. كانت التهمة الجديدة تضرم نيران الغضب  داخلها هذه المرة أكثر بشكل أكثر حدة من المرة الأولي  لدرجة صدقت معها بقدرتها علي الإتيان بتلك الخديعة. – كيف يمكنها دفع التهمة الآن؟

  • كيف يتسنى لها كشف الحقيقة؟ احتارت فلم تكن تستطيع ان تسوق حججًا مادية مثل صعوبة الوصول إلي المكان الذى تم العثور فيه علي الملعقة المسروقة. الدخول إلي الفناء كان في غاية اليسر: فبابه كان مفتوحاً في مقابل ردهة الدور الأول  للسلالم الكبيرة يدخلون منه لإلقاء النفايات أو لاحتياجات أخرى. كانت مجموعة كبيرة من الناس تغدو وتروح بحرية من ذلك الباب. إذن لا يمكنها سد أفواه من يتهمونها بقول إنها لم يكن بإمكانها الدخول من الباب ؟- الوسائل لتحقيق الهدف كانت كثيرة وميسرة وأمام ذلك، بنى الناس اعتقادهم .

حاولت كانديا البحث عن موضوعات مختلفة لأقناعهم ؛ شحذت فكرها الماكر. تخيلت ثلاث، اربع، خمس حالات مختلفة لتفسير العثور علي الملعقة بحفرة في الفناء. لجأت إلي كل حيلة او مبرر مهما قل شأنه دققت في الأمر بعبقرية فريدة. ثم بدأت تطوف بالمحال تحاول بكل شكل اقناع الناس والتغلب علي عدم تصديقهم لها . كانت الناس تستمع إلي كل مبرارتها بكل التفاصيل، ثم تعلق قائلة في نهاية الأمر:

  • حسنا! حسناّ!

ولكن بتلك النبرة التى كانت تدمرها تحطم معنوياتها تماما تقضي عليها. كل مجهودها ذهب هباء، كل ذلك بدون جدوى! لم يكن أحد ليصدقها! لاأحد يصدقها! وكانت تعود للهجوم مرة اخرى بعناد مثير للاعجاب. كانت تقضي الليل بطوله بحثا عن حجج جديدة، تشيد قصورًا جديدة، تجتاز حواجز، عقبات جديدة. شيئًا فشيئًا في هذا الجهد المستمر، بدأ ذهنها يخور ويضعف، لم تكن تفكر في شئ غير الملعقة، فقدت تقريبا أدراكها بالحياة العامة. ولاحقا بسبب قسوة الناس، أصيبت المسكينه بهوس . أهملت عملها وسقطت في براثن الفقر والعوز. كانت تغسل الثياب بصورة سيئة، تفقدها وتمزقها. عندما كانت تنزل إلي ضفة النهر، أسفل الجسر الحديدى، حيث تجتمع الغسالات الأخريات ، كانت في بعض الأحيان، تفلت من بين يديها قطع الثياب التى يسحبها التيار . كانت تتحدث باستمرار دون توقف دون نصب. دائما عن نفس الشئ. كانت الغسالات الشابات كيلا تستمع إليها، تأخذن في الغناء وتسخرن منها بابيات مرتجلة  كانت تسخر و تشوح بيدها كمن فقدت عقلها. لم يعد أحد يعطيها ملابس للغسيل. كانت الزبونات القدامى يشفقن عليها و يرسلن إليها بعض الطعام. شيئا فشيئا، أعتادت طلب الصدقة وسؤال الناس. كانت تجول الطرقات بملابس رثة محنية الظهر،شعثاء.

    وكانت الصبية تصرخ خلفها:

الآن احك لنا حكاية الملعقة التى لانعرفها يا خالة كا!

كانت توقف المارة الذين لاتعرفهم بالطريق، أحيانا لتحكي القصة وأحيانا أخري تبالغ وتسهب في دفع التهمة عنها.  والصعاليك من الشباب كانوا ينادونها ومقابل قطعة نقود يجعلونها تروي الحكاية ثلاث، وأربع مرات. يناقشونها في التفاصيل ويصعبون عليها الافتراضات؛ يستمعون إليها حتى النهاية ثم يجرحونها بكلمة واحدة.  كانت تهز رأسها ؛ وتنتقل إلي شئ آخر؛ تنضم إلي المتسولات الأخريات وتتناقش معهن ، دائما بلا كلل او استسلام. و كانت تفضل الحكى لمتسولة صماء جلدها مبرقش ببقع  حمراء من مرض الجذام وتعرج بإحدى قدميها.

في شتاء 1874  ، أصيبت بحمي خبيثة.كانت المرأة المصابة بالجذام تقوم بتمريضها. وأرسلت إليها دونا كريستينا لامونيكا زجاجة من الخمر القوى وصندوقًا من الفحم.