أكتب إليك والدموع في عينيّ

دموع الإنترنت

ــــــــــــــــــــــ

لا أذكر متى بدأت أزمتي المالية، لكنها على كل حال أسبق من الأزمة العالمية. وبهذه الصفة؛ صفة المأزوم تابعت الجهود الحثيثة لتطوير الإنترنت ورفعها من مجرد وسيلة معلوماتية إلى فضاء للأحلام، وللنصب والاحتيال أيضاً. دخلت موقع الجنة الافتراضية “سكاند لايف” وسرعان ما مللت الحياة في الجنة التي دخلتها بغير حساب. ووجدت الحل الأكثر إثارة، في رسائل النصب التي ترد على بريدي الإلكتروني، تلك التي تطلب رقم حسابي البنكي لتحويل مبالغ خرافية، متجاهلاً رسائل التسول التي يدعي أصحابها أنهم تعرضوا للسرقة ويطلبون مساعدة!

وجدتها! هكذا صحت. هذه هي الجنة، ألم يطلبوا حساباً؟ وهذه هي إثارة الوعد التي تجعل الطريق إلى وطن الراحة الكاملة أفضل من الراحة نفسها.

في البداية لم أكن أتأمل المبلغ، فقط أعد الأصفار أمامه، ولا يهم بعد ذلك إن كان ما بعد الأصفار الستة رقم واحد أو تسعة، في مرحلة صار المرسلون يبعثون بأرقام مختلفة تتضمن بعض الفكة (الفراطة) وهي تسلية أمتع كثيراً من صرامة الأصفار التي لا تفتح آفاقاً متعددة للتأويل؛ فلا معنى لسبعة ملايين سوى أنها سبعة ملايين، أما أن يكون المبلغ سبعة ملايين وستمائة وخمسة وعشرين ألفاً وخمسمائة، فهنا شغل المخيلة، وهنا لذة الثراء.

 للخمسمائة جنيه عملها، وللخمسة والعشرين ألفاً عملها، وللستمائة ألف أوجه إنفاقها المختلفة، وهي معاً قادرة على وضعي على أبواب الراحة، مع بقاء الملايين السبعة سليمة بلا أدنى جرح!

هي روح الطمع التي هاجمها الداعية متولي الشعراوي، في وعظ باسم عندما قال إن “لو جعل الله لابن آدم جبلاً من ذهب لسأل الله: والنبي يارب جبل فكة أصرف منه” لكنني من دون جبل صحيح أو فكة فقدت ولعي بالنقود، قناعة هبطت من السماء، مثلما تهبط أشياء كثيرة. وصرت مشغولاً بلغة التخاطب بين النصاب أو النصابة المجهولة مع الضحية المحتملة. الصيغ الرسمية التي تبدأ بـ “أنا السيد فلان أو أنا السيدة فلانة” ، والصيغ غير الرسمية التي تفتح مجالاً لتوقع إمكانية معاملات أخرى مع أو بعد الصفقة التجارية، أتأمل الأسماء والبلدان التي يتخذها النصاب أو تتخذها النصابة وطناً حقيقياً أو مفترضاً، مع محاولة تخيل الشكل ولون البشرة ومدى الجاذبية إذا ما كانت المرسلة من جامايكا أو من السنغال أو إيطاليا.

بأية صيغة كان الخطاب، يبدأ المرسل في الدخول بالموضوع بدقة وصراحة جراح بريطاني، بعضهم يطرح ما لديه متواضعاً بوصفه مشكلته الخاصة، فهو لأسباب مختلفة لا يستطيع الخروج بهذه الملايين ويريد حساباً يحولها عليه، وبعضهم يكون عملياً أكثر، فيطرح الأمر بوصفه عرضاً مفيداً للطرفين.

بالأمس تلقيت رسالة تصورتها عرضاً؛ فكانت تسولاً من ذلك النوع الذي دأبت على إهماله، حتى عندما انتحل المتسولون أسماء شخصيات معروفة.

كتب متسول الأمس”أكتب لك والدموع في عيني” ثم بدأ في شرح المعضلة التي تعرض لها الآلاف قبله من المشاركين في مؤتمرات. الأخ كان مشاركاً في سيمنار بلندن وسرق كالعادة، وكالعادة يحتاج مساعدة، ومن من؟! مني أنا؟!!

كيف كتب هذه العبارة المؤثرة؟ “الدموع في عيني” هل كان يضحك؟ هل كان يراهن صديقته على عدد من سيستجيبون؟ هل لا يزال في العالم حقاً من يمكن أن تهزه دموعاً إلكترونية من مجهول؟!

أياً كانت درجة نجاح هؤلاء النصابين الظرفاء في الحصول على ضحايا؛ فقد نجحوا في تغيير صورة المؤتمرات من أماكن لسرقة الحب والجنس والسعادة والشهرة إلى أماكن لسرقة النقود!

***

خروف افتراضي!

ـــــــــــــــــــــــــــ

على الكوبري لائحة ضوئية، وعلى شاشة التليفزيون فواصل من الابتهالات تملأ دقائق الهدنة في الحرب المصرية الجزائرية. والخلاصة في الحالتين دعوة إلى اتباع السنة النبوية في الأضحية، ولكن بنهج يحترم طبيعة العصر الافتراضي.

السنة سنة، لكنها طبيعة العصر، ومن يقيم في مدينة بوسعه أن يفعل الخير من خلال مؤسسة لفعل الخير، احتراماً لثورة المعلومات في عصر التخصص.

صك الأضحية يريحك من إراقة الدماء، وتعب وانشغال يوم العيد في الذبح والسلخ وتوزيع اللحم. تقدم إلى البنك المحدد  وادفع ثمن أضحيتك، وسوف يضحون نيابة عنك بإذن الله.

اللافتة والإعلان التليفزيوني يتيحان الخيارين أمام المضحي، الصك البلدي بتسعمائة جنيه، والصك الأسترالي بستمائة. هل يحمل التقرب إلى الله بصك بلدي المضحي إلى مكان في الجنة يختلف عن مكان المضحي بصك أسترالي؟

الخروف افتراضي داخل الصندوق أو الحساب البنكي، لا يراه المضحي أو ينظر في عينيه. والسعر مغر لا يتجاوز نصف السعر الواقعي، لكنه موحد، ولا تسأل كيف تمكنوا من جلب خراف متساوية الوزن بلا كيلو نقص أو زيادة!

***

  عود على بدء

ــــــــــــــــــــــ

في رواية “الأمير الصغير” يلتقي الراوي الذي هبطت طائرته اضرارياً بالصحراء الأفريقية، مع الصبي صاحب الكوكب الصغير، ويرسم له أفعى البواء وبداخلها فيل، لكن الصبي صاحب الكوكب الصغير يطلب خروفاً ليتناسب مع حجم كوكبه. وبعد محاولات غير مرضية لرسم الخروف، رسم له صندوقاً وقال له إن الخروف يوجد بداخله؛ فأشرق وجه الأمير.

هل أدرك العابث الكبير أنطوان دو سانت اكزوبيري، عندما أرضى نزق الأمير الصغير، أنه كان يؤسس للفضاء الافتراضي؟

من المؤكد أن دموع وورود ومعانقات ومضاجعات الإنترنت لم تكن في ذهن الكاتب المغامر عندما كتب روايته الفاتنة، مثلما لم يكن في ذهن أحد أن يدور العالم الافتراضي حول نفسه، ويعود مرة أخرى إلى حيث بدأ؛ إلى الخروف!

ـــــــــــ

نشر في «القدس العربي» ٢٠١٢