في شهادات سابقة، سواء في مقالات كتبتها أو استطلاعات شاركت فيها حول مستقبل الصحافة الورقية، تحدثت عن ريماني بتجاور الوسائل؛ فكما عاش المسرح إلى جانب السينما وكما استمر الراديو والسينما والمسرح مع التليفزيون، ستستمر الصحافة الورقية إلى جانب الرقمية، ولازلت متمسكًا بهذه الرؤية في وقت تترنح فيه الصحافة المصرية. لكن هذا الاستمرار مرهون بقدرة الصحافة على اعتراف الصحافة الورقية بهزيمتها في مجال الخبر، ومن ثم اكتشاف مساحتها الخاصة ، وإذا كان لي أن ألخص هذه المساحة في جملة واحدة فهي العودة إلى صحافة النصف الأول من القرن العشرين.
بعبارة أخرى أن تعود إلى القصص الكاملة الموسعة وإلى احترام الأساليب الأدبية. أي العودة إلى العمق ومتعة الكتابة.
هذه الوصفة مؤكدة النجاح، وتبدو سهلة، لكن تحقيقها في الظروف الراهنة يبدو مستحيلاً، بسبب الظرف السياسي الذي لا يحبذ الإبداع ، حيث تبدي الدولة حساسية فائقة ضد الصحافة الاستقصائية التي تمثل الساق اليمنى التي يجب أن تقف عليها الصحافة الورقية الآن، بينما يبقى حضور القصة الإنسانية والفيتشر خجولاً بسبب انحدار الأساليب مع انحدار مستوى القيادات الصحفية المختارة لحراسة المؤسسات لا إدارتها، منذ تأميم الصحافة إلى اليوم. لهذا تبقى احتمالات موت الصحافة المصرية أقرب من احتمالات بقائها، وبعد هذا الموت المستحق قد تبعث من جديد صحافة ورقية جديدة، في ظروف غير هذه التي نعيشها.
وأنشر هنا مقال إيريك فوتورينو، الرئيس السابق لتحرير اللوموند، نقلا عن منتدى المحررين المصريين، الذي أكمل عامًا من مجهودات تحريك النقاش حول الإعلام.
من يجرؤ على الطباعة؟
إذا كان العالم الذي نعيش فيه لم يعد عالما ورقيا، فليس محرما علينا أن نرغب في التمسك بوسيط يقولون لنا إنه راح وانقضى، عفا عليه الزمن، لم يعد عصريا. لا شك أن التوجه السائد في هذه الأيام يميل ناحية المنصات الافتراضية، وإلى الصغيرة منها تحديدا. الدليل؟ لقد دخل الناس أفواجا في عالم “الموبايل أولا”، وهي العبارة التي تعني
أن معظم الناس في أيامنا هذه يتصلون بالإنترنت عن طريق هواتفهم المحمولة. بمعنى أنهم يفضلون الدخول على الأخبار رقميا، لا ماديا، وفي صورة مختصرة. هكذا، تبدو الجرأة على رسم العالم على الورق ضربا من الجنون، خطأ تاريخيا، دخولا في معركة يائسة. لكن العكس هو الصحيح، إذ يمثل الأمر تحديا كبيرا: استخدام الورق كوسيط لصحافة حديثة، مجانية، أصيلة، قادرة على إدهاش القارئ بإبداعاتها.
لن يكون الورق شيئا من الماضي إذا نحن استخدمناه لطباعة محتوى يخاطب ذكاء القراء وحساسياتهم. إذا آمنا بأن القراء متطلبين، وأذكياء، وتواقين للفهم والتعلم؛ إذا وضعنا في الحسبان رغبتهم في التمهل، في التعمق، اشتياقهم أن يكتشفوا، أن يندهشوا، بل وأن يروا قناعاتهم تتزعزع.
مع تزايد سرعة التحول من “المادي”، والانتقال إلى “المختصر”، قد يبدو الحديث عن “إحياء” الصحف الورقية نوعا من الاستفزاز، بل والوقاحة. لكنها الحقيقة. إذا رفضنا التعامل مع النسخة الورقية بوصفها صدى مرتبكا للموقع الإلكتروني، أو الأخبار المنطوقة، أو البرامج التلفزيونية، سنجد أن الصحف توفر لنا إمكانية لقراءة الهادئة، توفر لنا نوعا من التعلم المتمهل والمستمر، لا تقطعه بين حين وآخر الروابط والإعلانات التي تقفز على الشاشة، والتي يستحيل التخلص منها. عندما يكون استخدام الوسيط الورقي مهددا لصالح الإنترنت والإعلام الاجتماعي (تيار أخبار الفيسبوك المعتمد على اللوغاريتمات، الماكينات التي تحولنا إلى أرقام)، كثيرا ما يُنظر إلى الورق بوصفه غير متجاوب مع تطلعات القراء. لذلك، لا تسعى إلى السرعة، بل إلى العمق. امنح قراءك شيئا يتذكرونه، امنحهم سياقا، امنحهم شرحا وتفسيرا. شجع القراء على الفضول، ابحث عن الامتياز من خلال الحصول على معلومات حصرية وتقديمها بصورة جيدة، ومن خلال المنظور الصحيح.
إذا أراد الورق أن يتفوق، فالأمر يرجع إليه: نصوص طويلة، بمعنى نصوص مكتوبة
جيدا، الفرصة لاصطحاب القراء في رحلة داخل قضايا ليسوا ملمين بها، لم يلتفتوا إليها، إذ لا يتجاوب الإنترنت إلا مع الاستفسارات التي يطلبونها. هذا هو ما يجعل الورق وسيطا إنسانيا قوي البنية، يثير التأمل، ويقوم على الربط بين الأخبار والتحرير والتحقيقات والاستقصائيات التي تسعى إلى صياغة معنى ما، في عالم يبدو خاليا من المعنى، في زمن حيث تبدو اللوغاريتمات التي تتحكم في البيانات وأنها تتلذذ بتدمير فهمنا للحقائق.
إن الورق، في نهاية المطاف، مرادف للمتعة. إنه ملمس، رائحة، موسيقى؛ وسيط حسي يصعب استبداله، ويستطيع أن يمسك بتلابيب القارئ إلى الأبد. [Share]
ايريك فوتورينو
رئيس تحرير “لو آن”،
رئيس التحرير السابق لـ”لو موند”،
باريس، فرنسا.