السقوط بلا بروفات


عبد المنعم رمضان
1 – فوتوغراف الملك الكاهن

كان الملك سليمان المعروف بما يكنزه من ذهب إبريز وتمر وجواسيس وبعض عبيد ومماليك وشمس أكبر من شمس الإسكندر، كان يفكر في أن يبني البيت وسقف البيت بألواح وجوائز من أخشاب الأرز، وأن يختص فرائضه المحفوظة ووصاياه لتصبح من آثار الرب، وتصبح زوجته بنت الفرعون خلاء رحبا ومزامير، ولمّا اكتمل رواق البيت اكتمل الهيكل واكتمل المحراب وصار الملك سليمان المعروف بما يكنزه من ذهب إبريز يفكر في أن ينقل هيكله من قلب مدينة أوراشليمَ ومن أحضان المذبح، ويعلقه فوق مياه البحر الأحمر كي يستمتع بالإنصات إلى صوت الملكات وأصوات الشعب المختار، وصوت نحيب الجُزر الغرقى والطافية، قبيل رجوع الشيخ إلى أرض الميعاد، الملك سليمان المشغول بما لن يقدر علم شيوخ الحرفة والتأريخ على إنكار هزائم جيش أبيه أمام جنود الباشا إبراهيم ولحيته المنفوشة، والمشغولُ بما لن يقدر علم الخوف من الأحلام على إخفاء الباب الأول من أبواب الجنة حيث النيل طويل كالفرعون وحيث الفلاحون منازل من منزلة الله، وحيث الله يقيم على كل الأشجار وفي القنوات وفي الأودية ويجلس أيضاً قرب خليج العقبة، ممدود الساقين، يشاهد ما لا يجرؤ أن يخفيه الملك، وكان الملك يفكر في أن يهب أراضي المصريين لإخوة يوسف وسبايا يعقوب وفي أن يأمر حاكم مصر بإسدال الأغطية السود على تمثال الباشا إبراهيم وذريته.

2 – الملك الجنرال يغني

علمني شيخي كيف تكون الغبطة لي والأرض لغيري، كيف يكون الناس جميعاً مثل قطيع، مأمورين بأن يتخذوا بعض اليأس من الفردوس سبيلاً لبلوغ الفردوس، وأن يتخلوا عما يمكن أن ينزفه الوطن الضائع مثل فراشات بيضاء ومثل الوحشة، أمي ذات صباح قالت لي: إن صرت أمير العسكر دون سواك فبالغ في الكتمان ولا تنظر لمياه أبيك، وضع عينيك بعيداً خلف حجاب، حتى تصبح ملكاً للقطرين، وإن أصبحت الملك فلا تتحرج من إهمال الروح إذا راودها الحلم بأن تصبح مشكاة، وافتح للأعداء رداءك وذراعيك، امنحهم، كي تتقدس روحك، خوذتك اللمّاعة ونياشينك، وامنح قرطك أو خلخالك، وامنح تاجاً من تاجيك، لأنك إن لم تفعل سوف تصير وحيداً تنهشك الأحزان، وتنمو فوق ذراعك، بعض الريح، وبعض العشب، وبعض الأغنيات، وبعض كتاب الموتى، روحك إن أعطيت عدوك طرف إزارك سوف تشف، وجلدك سوف يصير طرياً، تدخله الآلهة جميعاً، أمي ذات صباح قالت لي: يا عبد تجمل، فاستحييت، وقلت لشيخي: ماذا أفعل؟ قصري ليس قريباً منه هياج البشر الجوف المشتاقين إلى بحرين طبيعيين ونهر عذب وفضاء ممدود وسماوات سبع قد تتسع لما لا يقدر صدري أن يحمله، ماذا أفعل؟ قال الشيخ: إمامُك ليس أمامك، والباب المفتوح سيسمح أن تقترب العتمة من قدميك، الباب الموصد أقوى، قلت لشيخي: ماذا أفعل؟ قال: انتظر المدد من الأعداء، ولا تستأنس من يتمادى في الرغبات وتستعبده الأرض، ولا تفخر برفيق شارف حد الموت دفاعاً عن خيمته الأولى، لا تفخر برجال وقفوا تحت الشمس، اقتلْهم، واقتل من يتبعهم، واتْبعْ أمك، يا جنرال، اتْبعها اتْبعها مثل الليل اليائس ثم تجمل.

3 – نشيد الفقد

لسوف أضع الكتاب تحت شرفة المنزل، سوف أغسل الهواء بالماء الذي يسيل تحت إبطي، لأنني أصبحت غير قادر على البقاء في أريكتي، البنات ينسدلن كالتراب من ذاكرتي، ورغبتي في النوم مثل رغبتي في محو كل ما أراه، والعواء صار مثل الحلم صار مثل الأغنيات، منذ أمس لم أضع على فمي سوى لغات البدو، كانوا يسرقون من جسمي حمامتين طفلتين كفّتا عن الغناء، يسرقون من حروف اللغة الحرفين: حرف ( كل هذا لي) وحرف (نحن هاهنا وها هناك)، نحن ناقوس ونجمتان، عندما تختفيان، تختفي قدرتنا على ادّعاء أننا نقول للشيء الذي يكون كن، على ادّعاء أننا نقول للشيء الذي قد لا يكون لن تكون، منذ أمس، كانوا يسرقون الصمت، يلهثون عقب آهة، ويسقطون فوق الريح، يسقطون كالهواء الرخو، آنذاك، كنت أمسك السحاب من أطراف ثوبه، وأرتقي، كي أطأ الأفلاك كلها، وبعض صف هائل من الغيوم، والظلام، صارت السماء صخرة، كأن ما بيني وبينها دمائي الزرقاء، قلت: سوف لا أحط فوقها، وسوف إنْ توقفتْ، أمرُّ كالحنين، دون أن أجفف الماء الذي في جسدي، وقبل أن أضيع في الصحراء، قبل أن أخيطها بخرقتي، وقبل أن أخط في التراب، صورة للملك الجنرال، يحمل الجزيرتين فوق ظهر شعبه، ودون أن يرتج طيلسانه، ودون أن يحارَ، ينحني أمام الملك الكاهن، ينحني لبرهة يفوق عمرها هزيمتين، ثم هكذا يخرُّ مثل حبّة التاريخ، هكذا يخرُّ كي يقول: يا مولاي هاهما.

——-

عن جريدة “الأخبار” اللبنانية