أن تصير مستبدًا صغيرًا في كنف مستبد أعظم!

فرناندو بوتيرو

في كل عودة إلى «طبائع الاستبداد» أندهش  من كونه ـ على تعدد طبعاته ـ لم يحتل مركزه اللائق في أية محاولة تنوير عربية. في هذا المقطع يضع يده على سر توازن الديكتاتور، زي ديكتاتور، علي قمة هرم السلطة وهو مجرد فرد، السر في ولع السلطة ، وهو الرابط الذي يشد بنيان الهرم من أسفل إلى أعلى؛ فكل خادم للاستبداد هو من جهة أخرى مستظل بظله، ينال شيئًا من أبهة السلطة في محيطه، وهذا القدر من السلطة هو الذي يجعله يتغاضى عن الجانب الآخر من كيانه كعبد لرغبات الأعلى منه. هذا يهون، طالما يحصلون على جذوة من نار المستبد يحرقون بها شرف المساواة في الإنسانية:

والحاصل أنَّ المجد هو المجدُ محبَّبٌ للنفوس، لا تفتأ تسعى وراءه وترقى مراقيه، وهو ميسَّرٌ في عهد  إنسان على حسب استعداده وهمَّته، وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظّلم على حسب الإمكان.

يقابل المجد، من حيث مبتناه، التمجُّد. وما هو التمجّد؟ وماذا يكون التمجّد؟ التمجُّد لفظٌ هائل المعنى، ولهذا أراني أتعثَّر بالكلام وأتلعثم في الخطاب، ولا سيما من حيث أخشى مساس إحساس بعض المطالعين. إن لم يكن من جهة أنفسهم فمن جهة أجدادهم الأولين، فأناشدهم الوجدان والحقّ المهان، أن يتجرَّدوا دقيقتين من النّفس وهواها، ثمَّ هم مثلي ومثل سائر الجانين على الإنسانية لا يعدمون تأويلاً. وإنني أعلِّل النّفس بقبولهم تهويني هذا، فأنطلق وأقول:

التمجّد خاص بالإدارات المستبدَّة، وهو القربى من المستبدِّ بالفعل كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالملقَّبين بنحو دوق وبارون، والمخاطبين بنحو ربِّ العزة وربّ الصولة، أو الموسومين بالنياشين، أو المطوَّقين بالحمائل، وبتعريفٍ آخر، التمجُّد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبدِّ ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية.

وبوصفٍ أجلى: هو أن يتقلّد الرّجل سيفاً من قِبَل الجبارين يبرهن به على أنَّه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلِّق على صدره وساماً مشعراً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، أو يتزين بسيور مزركشة تنبئ بأنّه صار مخنَّثاً أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وبعبارة أوضح وأخصر، هو أن يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبدِّ الأعظم.

ـــــــــــــ

الكواكبي «طبائع الاستبداد»