رجل مثير للريبة

غرفة ترى البحر ـ إدوارد هوبر

كلما دخل المطعم وجد مجموعة كبيرة من الرجال السمر على موائد متقاربة، ليس في صحونهم الكثير من الطعام. لا يملون الكلام، يتناقشون بصخب وكثيرًا ما تعبر الجملة من مائدة إلى أخرى؛ فتتكسر الكلمات وتتناثر حول الطاولات.

يدور بصحنه بحثًا عن طاولة فردية مصممًا على إيجادها، حتى لو وجد العديد من الطاولات الخالية التي تتسع لأربعة أو ستة، يتذكر أنه كان في أزمنة أخرى طارئًا ضمن جماعة، وأنهم كانوا يزغرون  لأي طارىء يحتل بمفرده طاولة جماعية  في مطعم مكتظ. طارىء كهذا لا يُنظر إليه إلا بوصفه قليل الحساسية تجاه البشر.

كان الدوران، الذي يرجو من ورائه رضى البعض، يكلفه أحيًانًا ارتياب آخرين أو انزعاجهم؛ فالناس لا تنظر دائمًا للأمر الواحد من الزاوية نفسها. وبسبب اختلاف أنواع ودرجات زوايا النظر تلك، لا يستطيع إجراء حسابات الربح والخسارة لدورانه المجهد. الشيء الوحيد المؤكد أنه يكلفه الكثير من الوقت، مع ذلك لا يتنازل عن الانكماش على طاولة تكفيه بالكاد. ولكي يُصبّر عينيه على مواصلة البحث يسلي أذنيه بالتقاط فتافيت الكلام.

 

لا يهنأ بالسلام بمجرد العثور على الطاولة المأمولة؛ فعندما يستريح رجل ما أمام طبق في ركن لا مرئي من مطعم، لا يمكن أن يترك ذات الانطباع لدى جميع العيون؛ فمنها تلك التي تصفعه قصدًا، وتلك التي تلمس وجهه برهافة جناح فراشة سرعان ما يتعثر رفيفه ويضطرب بعد التلامس غير المقصود.

 

رجل ذاهل عما حوله يستقبل البحر، سيبدو في عين فراشة طارئة رجلاً رومانسيًا يصلح صيدًا، وفي عين فراشة نادلة هو صياد ماهر، اختار الركن البعيد لصق الواجهة الزجاجية لكي يستدرج فراشة خرجت من شرنقة دودة مُهمِلةٍ، لم تنبه ابنتها إلى أن الزجاج الساكن بلؤم يُسربُ النورَ لكنه يقتل الفراشة المندفعة.

نظرة الذكر إليه تختلف بطبيعة الحال، وعادة ما تتباين علاقتها مع وجهه من اللكم إلى التربيت الخفيف؛ ربما يظن الطارىء الآخر أنه لم ينزو بعيدًا أمام الواجهة إلا من أجل الإيقاع بفراشة، وربما يظن الطارىء الأحدث أنه لم يزل يشتهي طعام اللا- أحد، ولم ينزو هذا الانزواء إلا ليفرغ محتويات طبقه الأول بأقصى سرعة ممكنة، لكي يتمكن من جلب الطبق الثاني والثالث. وهذا ليس معناه أن كل الطارئين الذكور مبتلون بسوء الظنون. هلبتَ  من وجود طارىء حزين، يقدر حزنه  ويرى في انكبابه على عزلته نبلًا يبتغي من ورائه  حماية الآخرين من طيش نظرته الحزينة.

وغالبًا ـ وقد عثر حالاً على طاولة مفردة ـ  هو ليس أيًا من الرجال الذين قد يخطرون لخيال عين فراشة أو صقر.

 

قبل أن يجلس، تركت يداه الصحن لرحمة الطاولة فارتطم بها من دون أن ينكسر، ولم تتخل أذنه عن ملاحقة  فتافيت الكلام.

ـ هذا معناه أنك تمنحه شرعية…

ـ أمانة عامة تستدعي بالضرورة…

ـ والله هذا كلام بطّال خلاص.

لا يذكر أنه تلقى في طفولته تأنيبًا على طبق كسره، ذلك لأن صحون دارهم كانت من النحاس تُفني الآكلين ولا تفنى. كانت إذا هرمت تخضرّ فحسب؛ مثل أسنان البشر عندما يهرمون. وكانت أسرة النحّاسين تأتي لتُخيّم في أوقات معلومة من السنة، تتولى رفع طبقة الزنجار بقليل من القصدير والنار، ولا ترحل إلا وقد أعادت كل نحاس القرية إلى شبابه.

لم يكن هناك سوى الفخار الرخيص والنحاس. لم ير القيشاني القيّم الذي يتحطم فيكسر القلب معه إلا بعد أن فات زمن العقاب؛ فكان إذا كسر طبقًا يحاول إعادة تجميع أشلائه بفضول طفولي لا يخالطه أسف أو خوف. وعندما تغيرت حياته وصار أبًا، اكتشف أن هناك ألعابًا مخصوصة من الكرتون والخشب والمعدن يتم تفكيكها وتركيبها من جديد، ألقى بالكثير من عُلبها في أسّرة أولاده لتجفيف كل قطرة فضول قبل أن ترشح من ملاحفهم.

بالفضول النقي الذي عرفه عند تكسير الصحون وعرفه أولاده عند بناء ألعابهم وتقويضها، يجلس الآن، يحاول تجميع كسر الكلام ليعرف شيئًا عن الطارئين السمر الذين طرأ على جمعهم. من أين جاءوا؟ وما مشكلتهم بالضبط؟

بمرور الوقت كان لديه الكثير من شظايا الكلام التي زودته بحدس حول طبيعة معضلتهم من دون أن يفهمها؛ فصار يتقصد السير بين طاولاتهم، بالاستثارة التي يمكن أن يحسها طفل كلما وجد قطعة ظنها الحلقة الناقصة التي ستكمل بناء لعبته.

بعد طول إخفاق جلس ذات غداء، بتدبير يبدو عفويًا، على طاولة مفردة بين الطاولات التي تتقاذف الكلام. استأذنهم في التطفل عليهم ليشبع فضولاً لديه.

تكلم معمرون بأسى عن نزوحهم إلى البرج من أجل التفاوض لإنهاء صراع ينهك بلدهم مترامي الأطراف، عن دورهم التي كانت تولي وجهها للنهر، عن التماسيح التي كانت تعرف جيرانها من البشر وتداعب أطفالهم عندما يستحمون.  المفاوضون الشباب ليست لديهم وجهات نظر محددة بشأن نزاع في بلاد لم يروها، ومع ذلك يتحدثون بشجن عن الألم الذي نزح به آباؤهم إلى البرج عندما كانت صحونه من نحاس.

______________________

من “البحر خلف الستائر”