الطبعة الثانية من «يكفي أننا معًا»

أصدرت الدار المصرية اللبنانية الطبعة الثانية من رواية «يكفي أننا معًا» وهنا مقطع منها:رأته في حلم قليل التهذيب، جديد عليها تمامًا.

كانا عاريين في شارع صاخب، وكان يطوقها من الخلف محتويًا نهديها براحتيه ويداعب بلسانه شحمة أذنها، وكان المارة ينظرون إليهما ويمضون في دهشة ضاعفت متعتها.

فتحت عينيها مشبعة ومندهشة من الحد الذي وصلت إليه خيالاتها. أغمضت عينيها متناومة، وشرعت تستعيد الحُلم؛ فانتشت مجددًا، مستشعرة دفء جسده، ورائحة التبغ في أنفاسه الحارة التي تلفح رقبتها.

نهضت، وخطت متمهلة نحو النافذة. أزاحت الستائر، ووقفت وراء الزجاج تتأمل حديقة الفيلا. استغرقت في مراقبة غَزَل زوج من الحمام على النجيلة الخضراء، كان الذكر فاردًا جناحية الأزرقين، يرقص حول أنثى بيضاء مُشربة بالرمادي تتمنع، يرفع رأسه بالهديل، بينما ينتفخ عنقه فينتفش ريشه النيلي بلمعة قرمزية، يدغدغ جسد الحمامة بمنقاره وهي تتقافز هربًا من حصاره. «الذكر أجمل منها وهي التي تتمنع!».

عادت واستلقت على السرير تتأمل لوحتها العارية التي رسمها لها مُقبِّلُ الكعب مقلدًا لوحة تيشن «فينوس أوربينو» بالأحرى هي لوحة لجسدها بوجه فتاة أخرى، إذ عمد الفنان إلى تغيير ملامحها، وجعل بياض وجهها سُمرة خمرية،. تجاهلت الوجه الذي لا يخصها، واستغرقت في تأمل نهديها الصبيانيين، وانسياب فخذيها النحيلين.

مدت يدها والتقطت التليفون من فوق الكومودينو «سأطلبه» عبرت الفكرة برأسها، ومثل مرات كثيرة سابقة تراجعت «لديه رقمك، لماذا لم يطلب هو؟». أعادت التليفون إلى مكانه، ونهضت مجددًا، دون رغبة في مغادرة غرفتها. خرجت إلى الممر، وعبر الدرابزين نادت على الخادمة بالطابق الأرضي، لكي تحمل إليها إفطارها، ثم عادت إلى الحمام، تمارس طقوسها الصباحية.

بعد الإفطار، حملت التليفون بتصميم هذه المرة، وهاتفته. لم تخطئ أذنها الدفء في اختلاج النغمات الهشة في صوته، تحت طبقة الكاونتر تينور التي واجهها بها. تلعثمت للحظات، ثم ألقت على مسامعه بما كانت قد أعدته في ذهنها:

ـ هل يمكن أن أزورك لاستيضاح بعض النقاط؟

 لم يأتها سوى صمته؛ فأخذ قلبها ينتفض كعصفور في فخ. بعد لحظات أحستها دهرًا، انساب صوته مُرحبًا.

عندما دخلت عليه في المكتب. وقف يتأملها. دهمته هبة العطر ذاتها، الأناقة الهادئة المنسجمة مع الصوت الرهيف الواثق، لكنها بدت في فستانها الأزرق السادل أطول وأكثر نضجًا مما بدت تحت البالطو. «نحيفة، لكنها ليست طفلة».

 سألها إن كانت قد وصلت بسهولة، عن إحساسها بالحر، الذي جاء أبكر وأعنف من المعتاد. قال مبتسمًا:

ـ  لم يعد الربيع يأتينا إلا رمزًا!

بدا مستريحًا وراغبًا في الحديث. أخذها من القانون إلى الأدب، انتظرت لحظة صمت،  وسألته:

ـ بأي قدر يعتمد نجاح المحامي على المعرفة بالقانون، وبأي قدر يعتمد على ملكاته الشخصية؟ 

صمت للحظات، وسألها معابثًا:

ـ ما علاقة هذا بأطروحتك؟

أجابته:

ـ المعرفة لا تضر.

ـ معك حق!

ثم صمت دون أن يتخلى عن ابتسامته، فشرعت تعبر عن إعجابها بمرافعاته، وأخذ يستمع إلى حديثها عن نجاحه كأن ما تقوله تحصيل حاصل لا يستدعي الشكر. انتظر حتى انتهت من كلامها، وعقَّب بهدوء.

ـ لأنني أحب عملي، ربما؟

لم يظفر سوى بصمتها، فعاد يوضح:

ـ شغف المرء بما يفعل يجعله يجيد عمله.

 بعد لحظات صمت أخذ يُحدثها عن حبه للمحاماة، دون أن يُشعرها بأنه يرى مهنته  مميزة على نحو خاص.

  • لا توجد مهنة وضيعة وأخرى جليلة.

أخذت تستمع إلى استرساله. شعرت بعضلاتها ترتخي بانتشاء لم تحصل عليه تحت يدي أبرع المدلكين. نظر إلى الإعجاب في عينيها بحبور.

  • الشغف هو الأصل، ومع الوقت تأتي الخبرة.

وتمدد الصمت بينهما، بينما أخذ يختلس النظرات إليها. أحست بالحرج، وسألته:

  • تبدو شغوفًا بالأدب.

كأنها لمست جرحًا. أرجفته شكة ألم، وكاد يبوح لها بحلم الكتابة الذي تبدد في أروقة المحاكم. لا ينسى اللحظة التي صارح فيها نفسه بعجزه عن مواصلة ولعه السري. أخرج كتاباته التي يحتفظ بها على أوراق متعددة الأحجام والألوان، ورتبها، من الخربشات الأولى إلى كتابات المرحلة الأخيرة التي أسماها «مرحلة تبدد الروح» وحملها إلى ورشة تجليد.

بعد أن عرض عليه الأُسطى العجوز رقاعًا من الجلود المختلفة والأقمشة والكرتون، اختار غلافًا من جلد الغزال. سأله الأُسطى عن العنوان، أجابه بتلقائية «مومياء الحلم». دس المجلد في المكتبة الصغيرة بغرفة مكتبه، التي يحتفظ فيها بأهم مراجع القانون.

اختلس نظرة إلى المكتبة، ثم نظر في عينيها، وأجابها:

ـ بالأدباء  الكلاسيكيين على نحو خاص.

  • لماذا؟
  • لكي أحكي مثلهم، وأتجنب طريقتهم في المرافعة.

تطلعت إليه بحيرة؛ فاسترسل:

  • من دوستويفسكي إلى فلوبير ونجيب محفوظ، كلهم يروون حكايات أبطالهم بشكل رائع، لكنهم يترافعون عنهم بشكل سيء، لا يطلبون لهم البراءة بل يلتمسون العطف. في أعماقهم يدينونهم، وأسوأ محام هو من يبدو غير مؤمن ببراءة موكله.

سألته:

ـ ونابوكوف؟

فاجأه سؤالها، فاندفع يسألها:

ـ تعرفينه؟!

رمقته باعتداد، وكأنها تقول له «من تظنني؟» فاستأنف، كالمعتذر:

ـ في «لوليتا»؟ هو الأسوأ، جعل همبرت همبرت يترافع عن نفسه بقصد أن يخسر. لم يكن نابوكوف مؤمنًا بسلامة الموقف الأخلاقي لبطله.

أحس، بأنه تجاوز حدود الثقة بالنفس إلى الغرور، فبدت عليه علامات الحرج، واختتم بصوت هادئ:

ـ هذا كل ما هنالك،على المحامي أن يؤمن بما يقول، وأن يكون قادرًا على نقل حماسته إلى المنصة، ولا أدعي بأنني أنجح دائمًا.

تيقنت من مرافعته التي خصَّصها لها وحدها أنها وجدت المفتاح، وعندما خرج معها، وصافحها أمام باب المكتب مستبقيًا يدها في يده، أدركت أنها تمكنت أخيرًا من إصابة البطيخة التي يحملها بالاهتزاز.