شاعر كندي يتأمل سنوات ديريك والكوت في إدمنتن
الغريب الذي أحبك
بيرت ألمون
ترجمة: أحمد شافعي
قبل ثماني سنوات، قرَّر رئيس جامعة ألبرتا أن يصقل سمعة الجامعة بتوظيفه ديريك والكوت ـ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب سنة 1992 ـ في منصب مستحدث هو الباحث المميز المقيم. كان ذلك التعيين يقتضي منه التواجد في الحرم الجامعي لستة أسابيع من كل خريف في الفترة من 2009 إلى 2012، فضلا عن فصل دراسي صيفي في سان لوسيا 2012.
وعهد إلى قسمي اللغة الإنجليزية والدراما بالشكل الذي تتخذه عملية الصقل تلك، فكان ذلك التكليف مفاجأة للقسمين، إذ لم يصحبه توجيه إلى الطريقة الممكنة للاستفادة من مواهب ذلك الكاتب الاستثنائية. ولما كنت معجبا بأعمال والكوت، وأستاذا للكتابة الإبداعية ذا خبرة تصل إلى سبعة وثلاثين عاما، فقد وقع الاختيار عليَّ لتنظيم فصل دراسي له في الكتابة الإبداعية تابع لقسم اللغة الإنجليزية. ولمّا لم يكن الرجل عضوا في فريق التدريس، فقد تولَّيت أنا الإجراءات الرسمية، من قبيل وضع الدرجات، وكنت أرافقه في دروس الكتابة. وتبيَّن لي أنني أحد صبيته المتدربين، شأني شأن الطلبة.
لم يكن والكوت ـ الذي توفي الأسبوع الماضي عن سبعة وثمانين عاما ـ معروفا في كندا بصورة جيدة. فوجدت نفسي أشرح للزملاء والطلبة والصحافة أنه الشخصية الأساسية في الأدب الكاريبي، وأنه من سانت لوسيا، وأنه ابن مزيج من الأفارقة والبيض، وأنه أقام مسرحا شهيرا في ترينيداد فصار بذلك أبا للمسرح الكاريبي.
كتب مسرحيات كثيرة، شعرية في العادة، لكنه اشتهر أكثر بشعره الغنائي المتين وبمراجعته ما بعد الحداثية العظيمة لأوديسة هوميروس التي جاءت تحت عنوان “أوميروس” ودارت أحداثها في قرية من قرى صيد السمك بجزيرة سانتا لوسيا. جئت برابط صورة قلمية له كتبها هيلتن آلس في ذي نيويوركر بعنوان “ابن الجزيرة” وبعثته إلى من أرادوا أن يستزيدوا في معرفته، كما بعثت رابط بيان الأكاديمية السويدية الذي جاء فيه أن “جائزة نوبل في الأدب لعام 1992 قد منحت لديريك والكوت ’لما في منجزه الشعري من بهاء عظيم، ولالتزامه في نتاجه الإبداعي بالتعددية الثقافية’”.
أعلن عن تعيينه في الأول من مايو سنة 2009، على أن يبدأ التدريس في سبتمبر. وأردت أن أضع خطة منهج على الفور، لكنني واجهت وقتا عصيبا للغاية وأنا أحاول الوصول إليه لأعرف رؤيته لفصل الكتابة الإبداعية الدراسي. كانت آلة الفاكس لديه معطلة، ولم يكن لديه حساب بريد إلكتروني، ولم يرد أحد على الاتصالات الهاتفية بمنزله في سانتا لوسيا. فكتبت رسائل, ثم بعثت طرودا. وبكت موظفة البريد حين لم تستطع العثور على سانتا لوسيا من خلال الكمبيوتر الخاص بها. “أهي جزيرة تابعة للولايات المتحدة؟”. وفي أغسطس، تلقيت رسالة عبر الفاكس من نيويورك التي كان يقضي الصيف فيها، فلم تكن تلك الرسالة إلا قائمة مكتوبة بخط اليد لأسماء مؤلفين: إذ أرادني أن أوفر نسخا من أعمال توماس هاردي وإدوارد توماس ودبليو إتش أودن وهارت كرين وفيليب لاركن. كما أراد أن يدرج رواية شعرية كتبها جورج ميريديث في الحقبة الفكتورية بعنوان “حب عصري” Modern Love، ولم أكن قد قرأتها. ولم يدرج كتابا تعليميا للكتابة الإبداعية، ولا قال لي ماذا ينتوي أن يفعل في الفصل دراسي. وكان أمامي شهر لطلب الكتب.
كان القسم يفترض أنه سوف يدير ورشة، على الطريقة شبه السائدة لتنشئة الكتاب في أمريكا الشمالية. وكان المتبع أن تقام ندوات صغيرة يقدم الطلبة خلالها أعمالهم فيفحصها زملاؤهم تحت إشراف كاتب مخضرم. وكنت قد درَّست في الورش الشعرية لأكثر من ثلاثين سنة، ولكنني كنت أعلم أن هذا النموذج قد يغري بإنتاج أعمال موجَّهة غايتها إرضاء جميع المشاركين في الورشة، بدون مواجهة للتحديات بالضرورة. كان وقت تسجيل الطلبة ضيقا، لكنني عثرت على عدد من طلبة الكلية وطلبة الدراسات العليا ذوي الموهبة الأصيلة. فكانت من بينهم ويندي مكجراث التي كتبت بعض أعمال مجموعتها الأخيرة “مراجعة للقادم” خلال فصل ديريك. كما أن لكتابها هذا مفتتحا مأخوذا من قصيدة “حب بعد حب” التي حلَّت بدلا من “صرخة بعيدا من أفريقيا” كأشهر قصائد والكوت وأكثرها ورودا في الأنطولوجيات. وها هي القصيدة كاملة:
سيأتي عليك وقتٌ
تبتهج فيه وأنت ترحب بنفسكَ
عند باب بيتك،
وأمام مرآتكَ،
ويبتسم كلٌّ في وجه الآخر
مرحّبا به
قائلا له
تفضل بالجلوس،
تفضل الطعام.
ستقع مرة أخرى
في غرام الغريب الذي
كان أنت.
وتعطي نبيذا،
وتعطي رغيفا
وتعطي مرة أخرى لقلبك
قلبَك،
تعطيه للغريب الذي
ظل يحبك طول حياتك
مع أنك تجاهلته
من أجل غيره،
هو الذي يعرفك عن ظهر قلب.
هات الرسائل الغرمية المركونة
على الرف،
هات الصور،
والمذكرات التعيسة،
قشِّر صورتك نفسها عن المرآة،
واجلس..
حياتُك وليمتك.
كثيرا ما يتكلم أولئك الذين يقيمون فصول الكتابة الإبداعية عن مساعدة الكتّاب في “العثور على أصواتهم”، وتقويتهم، وإعطائهم رخصة الكتابة. ولقد سمعت أساتذة يتكلمون عن إمدادهم طلبتهم بـ”مكان آمن للكتابة”، أما ما وفره ديريك والكون فكان مكانا خطرا للكتابة، كما كان يعلِّمهم العثور على أصوات كثيرة، لا سيما أصوات الماضي. ولم يكن معنيا بإصدار تراخيص للكتابة. قالت لي شريكة حياته سيجريد ناما ـ وهي مثال اللياقة والدفء ـ منذ بداية معرفتي به إن “ديريك لا يستطيع أن يثرثر، أو يكذب، وليس له في الكلام الصغير”. وكانت الاحترام في نظر والكوت هو تطبيق أعلى المعايير حسب فهمه لها. وكان من أقواله إن “جمال الشعر يأتي من اشتدادك على نفسك”. لكنه كان قادرا على معاملة الطلبة معاملة كريمة. فكان يحب أن يخرج مع طلبة فصله إلى عشاء. وحينما كان يدرِّس لمجموعة من الطلبة في فصل دراسي صيفي تكميلي في سانتا لوسيا سنة 2012، منح الطلبة مكانا للعمل في بيته وكان يصطحب الطلبة إلى الشاطئ لدروس الرسم.
صدم حينما علم أنني ألحقت بفصله ثلاثة عشر طالبا، فلم يكن قد درَّس لفصل يتجاوز عدد طلبته الستة. ولم يكن مطمئنا إلى التدريس المشترك فاقترح أن أكتفي بتقديم قائمة القراءات وإيضاح قواعد قسم اللغة الإنجليزية. وحينما قدَّمت ذلك التمهيد في اليوم الأول، قال إن بوسعي البقاء حتى الاستراحة. وفي نهاية الاستراحة قال إن بوسعي البقاء حتى النهاية. ثم اقترح أن أحضر جميع المحاضرات. كنت أقله من جناحه بوسط المدينة قبل ساعة من كل محاضرة, وأحاول في ثنايا ذلك أن أتكلم في خططه بالنسبة للطلبة، لكن قدرته على الاستماع بأذنه اليسرى كانت أقرب إلى الصفر. كان دخول المبنى شاقا عليه، فقد كان يعاني من مرض في الرئة، وحالة السكري المتردية لديه كانت تجعل المشي أيضا شاقا عليه. وكان يجب عليه فعلا أن يتناول الطعام الخفيف والماء لضبط مستويات السكر في دمه، ولم يكن يرى من اللياقة أن يأكل أو يشرب أثناء التدريس. وفي الفصل الدراسي الأخير له سنة 2012، كان عليَّ أن أصطحبه إلى الفصل ومنه في كرسي متحرك. وكان يؤكد لي أنني أسوأ سائق كرسي متحرك قابله في حياته. وكنت عند الاقتراب من المنحدر الملاصق للمبنى أعلم أنني لو فقدت السيطرة فقد أدخل التاريخ بوصفي قاتل كاتب عظيم، كاتب صار لي صديقا.
كان كاتبا لا يزال يستعمل قلم الحبر ويكتب الشعر والمسرحيات على ورق أصفر مسطَّر، لينسخه بعد ذلك في الملفات طلبة كان يستأجرهم لذلك. ولم تكن من فرصة ليتعلم استعمال الكمبيوتر أو البريد الإلكتروني وكان من شأن ذلك أن يزيد عملنا كفاءة. سألني مرة في 2010 “ماذا يكون فيسبوك؟” وكانت الإجابة المثلى لذلك هي أن أصطحبه ليرى “الشبكة الاجتماعية”، فالتقت إليَّ في نهاية الفيلم وقال “ما قيمة فيسبوك؟” ولم أستطع أن أجيب. وفي 2011 كانت له انتقالة إلى الحقبة الإلكترونية. فقد راقه أن يعرِّف طلبته بقصيدة مؤثرة لآدم زاجاجفيسكي هي “الذهاب إلى ليفوف”، فجعلنا نقرأها جميعا، ثم سأل آدم ويلسن “هل يمكنك أن تسجل قراءتنا وتبعثها هدية لآدم زاجاجفيسكي؟” وفي هذا التسجيل إطلالة عليه كمدرس، حيث يجلس شريكه في التدريس عن يمينه، بينما معد الفيديو في المقدمة.
قال في محاضرة له بكلية كونكورديا الجامعية إن “خير سبيل إلى تعلم صنعة هو بالتدرب على يد صانع”، وقال إنه تعلم من زميله الشاعر الروسي الحاصل على نوبل جوزيف برودسكي، برغم أنهما كانا شهيرين عندما التقيا. ولقد دأب الرسامون على إرسال تلاميذهم إلى معارض اللوحات لدراسة الروائع بل ولاستنساخها. كان ديريك يطلب من طلابه حفظ قصائد وإلقاءها، كمجموعة في العادة ومنفردين في بعض الأحيان. وكنت أحفظ القصائد أيضا. وكانت القائمة تتضمن دائما “في الريح والمطر” لتوماس هاردي و”سقوط روما” لدبليو إتش أودن و”حكاية الشاب والشيخ” لويلفرد أوين و”المجد” لإدوارد توماس (وهي طويلة جدا) و”إلى جسر بروكلين” لهارت كرين، ولكنه كان يضيف قصائد أخرى إذا خطرت له كـ”تذكر” لإيميلي برونتي و”كورس أطلانطا في كاليدن” لـ ألجيرنون تشارلز سوينبورن بتفعليلاتها المخاتلة. وليسأل كل من يقابل طالبا سابقا لوالكوت إن كان يحفظ قصيدة لهاردي أو لأودن فيسجد أنه في العادة يحفظها بالكلمة. في برنامج سجلته بي بي سي في حفل عيد ميلاده السنوي بسانتا لوسياحاصر والكوت تلميذه السابق جلين ماكسويل في جامعة بوسطن مطالبا إياه بإلقاء قصيدة “سقوط روما” لأودن.
كان أغلب القصائد التي نحفظها قصائد موزونة مقفاة إذ كان يعتقد أن الأوزان والقوافي أساسية في الشعر. وكان كثيرا ما يردِّد أن القوالب تحرِّر الخيال. وكان ينصح الطلبة حينما يتعثر بهم الوزن قائلا “إذا عاندتكم القوافي، فتوقفوا. اعثروا على حل المشكلة، إنها موهبة اكتشاف. وابدأوا جملة جديدة”. أما عن القافية فكان يؤكد أن “كل بيت من الشعر المنظوم يطلب قافية، وكل بيت يتوقع له قرينا”. لكنه كان يقول أيضا إن “القافية هوة” لأنك قد لا تعثر على القافية المناسبة. وعن المعجم قال لأليشيا بريموهامد إن “هذا هو عمل الشاعر: العثور على الكلمة المناسبة. قد يقتضي وصولها إليك أياما أو أسابيع. والنصيحة الوحيدة التي يمكن أن أقدِّمها لك هي أن تعثري على مكان مرتفع فيه شرفة مفتوحة وتسيري باتجاهه”. كانت صورة معلم الزن ذي العصا تخطر لي في بعض الأحيان. كان يريد من الشعراء أن يتجاوزوا الكتابة الغنائية المعتادة في زماننا، المعتمدة على زمن المضارع وضمير المتكلم. وكان هو نفسه قد كتب سرديات رائعة كـ”رحلة المركب الشراعي” و” The Spoiler’s Return” وملحمة أوميروس. وقال لنا إن “في كل فن قوة معنوية، والقوة المعنوية معناها القوة السردية”. كان يريد إحياء المسرح الشعري ودفع الطلبة إلى تجريبه. وبرغم التزامه الكبير بالوزن والقافية، كان يعلم أن كتابة الشعر تستوجب أكثر من كتيب بالمصطلحات الأدبية ويتكلم عن الشعر بوصفه ذلك “التوازن الرهيف بين الحوار والصنعة”. كان يناقش أعمال همنجواي (ويعتبره كاتبا كاريبيا!) بوصفها لونا من الشعر. ولاحظ غير مرة أن أسلوب همنجواي الشهير هو “منجز شخص يقف في الطرف الآخر من النثر واصلا إلى تخوم الشعر”، ونصحنا بأن “المراوحة بين الشعر والنثر” نافعة للممارسة في كلا القالبين. وكان له اهتمام خاص بالطريقة التي يعيد بها الكتّاب خلق منجزات الماضي. فأرانا ذات يوم كيف حوَّل الشاعر الأمريكي هارت كرين “البيت العظيم” the mighty line المعروف لدي الكاتب المسرحي من العصر الإليزابيثي كرستوفر مارلو إلى أداة للشعر الغنائي الطليعي، فلم يعد “إنجليزيا”. “لم يكن يريد وزن تينيسن” فحوَّل الأسلوب المسرحي إلى لون جديد من الشعر الأمريكي.
كانت المحاضرات تبدأ في العادة بإلقاء جماعي لأحدث القصائد المكلف بحفظها. بعد ذلك يناقش والكوت القصيدة بدون إسهام يذكر من الطلبة. لكنه كان يطرح أسئلة صعبة. ولم يكن يشجعني على إجابة أي منها قائلا “أنت تعرف الكثير”. وكان مزاجه يتعكر. حدث أثناء تعليقه على قصيدة “الجسر” الطويلة لهارت كرين أن أشار العديد من الطلبة إلى أن تصوير حياة سكان أمريكا الأصليين غالبا ما يأتي نمطيا، برغم أن المراد منه كان أن يأتي محببا. فغضب ديريك وقال إنه يحب القصيدة منذ سنين كثيرة وإنهم يفسدونها له. وبعد اللقاء قال لي إن “البيض مغرمون بذنبهم”، مكررا الجملة مرات عديدة أثناء سيرنا في الممر المفضي إلى المصعد.
كانت تكليفاته الكتابية غير نمطية. في بداية الفصل الدراسي الأول طلب من الطلبة أن يأخذوا فقرة من عمل أدبي ويحيلوها إلى مشهد درامي شعري يستنبطونه. وبدا ذلك التكليف للطلبة كثير القيود فعمدوا إلى مزيد من الإبداع. ولما أعاد إليهم أوراقهم قال “كلم أخطأتم. وسؤالي لكم: هل أنتم جهلة أم متغطرسون؟” ثم تمهل أمام المجموعة المصدومة منتظرا الإجابة. ثم كرر السؤال، ولم يرفع أحد عينيه. وكان أكثر التكليفات أصالة ذلك الذي فرضه على فصل كان يدرِّس له في خريف 2012، فقد طلب منهم قصيدة تدور في القرن التاسع عشر، من أربعة أقسام، طولها يتراوح بين ثلاث صفحات وأربع، وتحكي قصة مذبحة مركزة على امرأة حدودية [ويقصد بها في هذا السياق من تعيش على تخوم منطقة حديثة الاستيطان في العالم الجديد]، ويأتي القسم الأول سردا شعريا يعرض السياق، والقسم الثاتي مختارات من يوميات، ويكون نثريا أو شعريا، “متصلا، لا مجرد شذرات منفصلة”، والقسم الثالث يكون رسالة شعرية من امرأة إلى شخص ما قد يكون قريبا لها، ويأتي القسم الرابع رثائيا، يحيي ذكرى المرأة شعرا، ويتضمن ترتيلة أنشدت في جنازتها، ترتيلة “من تأليفكم” على أن تكتب القصيدة في خمسة أيام ليقرأها قبل الأسبوع التالي.
وكانت النتائج استثنائية. فقد نشرت قصيدة إيريكا لوكيرت في Glass Buffalo وفازت بترشيح لجائزة المجلة الوطنية. وكان حظ طلبته سنة 2010 أوفر: فقد طلب منهم أن يعرفوا ماذا تكون الـ bestiary ثم أن يكتبوا bestiary كندية [وهي رسالة وصفية أو حكائية عن الحيوانات ذات مغزى أخلاقي، فلعل من أمثالها لدينا حكايات كليلة ودمنة]. وسمح لهم بمزيد من الوقت لإتمام ذلك. وكان على طلبة المدرسة الصيفية في سانتا لوسيا أن يكتبوا سونيتات إلى روبنسن كروزو ويحولوها إلى كتاب.
وكان يحدث مرة في كل فصل دراسي أن ينال كل طالب ما يصبو إليه ويَرهبه، أي أن يراجع له والكوت قصيدة أو اثنتين. ولو أن فصل الموسيقى يبدأ بطالب يعزف عملا لموسيقي متميز حتى يوقفه أستاذه عن العزف حيث يشاء ويصحح التكنيك ويبدي ملاحظاته الناجمة عن سنوات كثيرة من الخبرة، فقد كان والكوت يجعل طالبا يلقي قصيدة، ثم يقاطعه حيث يشاء. وكان يقول أيضا “إن ما أريدكم أن تحصِّلوه من مسيرتي هنا هو أهمية مسؤولية الكلمة”. كان يؤمن بأن الشعراء يجدون متعة في صنعة غيرهم من الشعراء، ويؤمن كذلك بأن الشعر اليوم ليس فيه من الصنعة الكثير. كانت نقاشات قصيدة لطالب كثيرا ما تتريث طويلا عند الكلمات، بل عند حروف الجر البسيطة. وكنت أتأمل تحول قصيدة لطالب من قصيدة متواضعة إلى قصيدة جيدة، أو قصيدة تبدو للوهلة الأولى رفيعة الدرجة إذ تتكشَّف عن قصيدة متواضعة سرعان ما تتشكل قصيدة ممتازة بحق. وكان يحدث أن ينهر باقتضاب: “لقد كنت تقرأ جيل البيت [جماعة آلن جينسبرج]. وأنا أكره هذا. التالي؟”. وكما هو متوقع، كان يكره الـ poetry slams [وهي منافسات في أداء الشعر]. وكان يلقي نكات كثيرة مما يشيع بين من يتعالون على اللغو، فكانت إحداها عن الـ poetry slams: “يقترب رجل من الميكروفون. يقول، اسمي دانتي أليجيري، ومعي ثلاث قصائد”.
كان الثناء نادرا، لكنه في خضم نقاش محتدم لقصيدة كان يمكن أن يقول “ماذا يفعل المرء في بيت جيد كهذا إلا أن يسرقه؟” أتذكر تعليقا له على شاعره المحبب إدوارد توماس: “ثمة درجة حرارة في عمله. وكأنه صباح الشعر الأول”. كان يبحث عن الأعمال متوترة المشاعرة تامة الشكل التي تخلق العالم خلقا جديدا فيلتقي به الشاعر كأنه آدم حديث الخلق.
في اليوم الأخير للفصل الذي درَّس له سنة 2011، تلفَّت حوله بابتسامة ماكرة وقال “أنتم لا تعرفون كم أنا شرير. ليلة أمس استلقيت أفكر أنني طلبت منكم أن تحفظوا قصيدة ’حكاية الشاب والشيخ’ لويلفرد أوين لكنني لم أطلب منكم إلقاءها، هيا ألقوها”. وقبل أن ينتهي من كلامه كان الطلبة قد بدأوا في إلقائها، وألقوها إلقاء مثاليا، فانهمرت الدموع فجأة من عينيه لدرجة أنه جفَّفها بطرف حقيبة كتبه. وصعب عليه أن يتكلم. كانت في اللحظة سخونة ما. لدرجة أنها أذابت رجلا قويا.
فاز بيرت ألمون بجائزة الشعر من جامعة كتاب ألبرتا مرتين وحصل على جائزة كتاب مدينة إدمنتن سنة 2008 عن كتابه “شبح محطة ووترلو”.
نشرت المقالة في موقع مجلة وولراس ونشرت الترجمة أمس في ملحق شرفات
نقلا عن مدونة: