استطاع الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون أن يحول احتفالات بلاده بالعيد الوطني المئة، بحضور دونالد ترامب، إلى فرجة تابعها الفرنسيون وغير الفرنسيين بمتعة، لكن ما أراده ماكرون كان أعمق وأكثر أهمية من تحقيق المتعة الفنية وبهجة المشاهدة للملايين الذين تابعوا المناسبة. كانت الاحتفالات مناسبة لتجديد صورة الجمهورية الفرنسية وإعادتها إلى الواجهة في الصف الأول بين الأمم الكبيرة، واستكمال بناء صورته الشخصية برصفه رئيسًا قويًا لبلد عريق.
جاء الرئيس الشاب بعد رئيس موظف قضى مدته مندهشًا من وجوده في الإليزيه، وصف نفسه بـ «الرئيس العادي» بكل ما تعني الكلمة من قلة استعداد للمغامرة بخطوة كبيرة داخليًا أو خارجيًا. كان يبدو مستحييًا من كونه في ذلك المقام.
ماكرون على العكس تمامًا، مؤمن بذاته، وبقدرات بلاده معًا، ويعمل من اللحظة الأولى على تعظيم قيمة ما تملك، ساعيًا بالمهارة السياسية لجعل فرنسا تبدو أكبر من حجمها بدرجة. كان أول ما فعله بعد وصوله للإليزيه هو إعادة التأكيد على العمل مع ألمانيا من أجل ترميم أوروبا الموحدة، لكنها شراكة الند للند، لا شراكة التابع.
وجاءت مناسبة العيد الوطني لكي يؤكد على أنه لن يكون ذلك المنسحق أمام طغيان شخصية المستشارة الألمانية ولن تكون فرنسا ذلك التابع للدولة الأكبر والأقوى في الاتحاد الأوروبي، ومن أجل هذا تحديدًا اختار أن يجعل من الولايات المتحدة، حليف أوروبا المناوئ لألمانيا، ضيف شرف المناسبة متعللاً بذكرى دخولها الرمزي المتأخر الحرب إلى جانب الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الأولى.
أراد ماكرون أن يوازن بين الجارة والحليف الذي يناصبها الارتياب حتى لا تقع بلاده تابعًا للشريك الأوروبي. وجه الدعوة إلى البلد الأكبر حتى الآن ـ في حلف الناتو على الأقل ـ ومن محاسن الصدف أن يمثل هذا البلد الكبير رئيس شرعيته محل جدل، ووطنيته محل تحقيق رسمي، وسلوكه وقراراته محل سخرية الصحافة طوال الوقت. رئيس جاهز للانبهار والامتنان للدعوة.
لحظة اختارها ماكرون لإعادة التذكير بفرنسا، وتقديم نفسه للعالم، من خلال عيني ترامب الذي بهرته أضواء المدينة العريقة، وقد بدا مستريحًا بوصفه ضيفًا في الإليزيه أكثر من وضعه كرب للمنزل في البيت الأبيض. ولابد أنه أحس أن بيت الحكم الأمريكي استراحة ريفية بجوار فخامة القصر الفرنسي.
القصور العريقة والساحات الواسعة والمعالم التاريخية المهيبة، هي بعض من رأس المال الرمزي للدول، وقد استطاع ماكرون أن يستثمر تاريخ بلاده بذكاء مثقف يعرف معنى هذه الأشياء التي لا تُشترى بأموال الدنيا.
وبدا الرئيس الشاب النحيل جديرًا بتمثيل كل هذا الثقل الحضاري، يبتسم بحساب، يقف مشدود القامة في مواجهة الجثة الضخمة لعجوز عامي لا يضيع فرصة للهذر!
في الدبلوماسية لا يبدو الامتثال للحقيقة إجراءًا حكيما، لذا فإن ماكرون الذي يعرف محدودية قوته العسكرية، بل قوة أوروبا التي تبقى مكشوفة دون الدفاعات الأمريكية، لم يمتثل لهذه الحقيقة، وجاء العرض العسكري في شارع الشانزليزيه مناسبة للفخر. وكان التركيز على التاريخ والتقاليد مرة أخرى، من خلال إبراز فرقة الخيَّالة.
باختصار كان التاريخ، هو المعنى والقيمة التي لم تغب لحظة في جدول الزيارة.