كنت قد وهبت الخميس لشريف عبدالمجيد، لأرى سر إصراره الصموت، فهو من القلة النادرة من مواليد زمن الرواية التي تتمسك بالقصة القصيرة. وضعت أمامي مجموعتيه ‘فرق توقيت’ و’جريمة كاملة’ مستبشرًا بحجمي الكتابين، إذ اعتدت أن أمنح ثقتي المبدئية للكتب النحيفة.
قبلتني مي ومضت بكأس قهوتها العازل للحرارة، بفتحة صغيرة تمتص منها القهوة ساخنة حتى آخرها، لكن هذه الكأس تُحتم على الجيل الجديد من كتاب القصة الإقلاع عن استخدام تعبير’ارتشاف القهوة’ الذي استخدمته أجيال من الكُتّاب وكأنه حقيقة من حقائق الوجود.
عن نفسي لم أزل أرتشف من فنجان يعزز إحساسي بحرية الكسل. وكنت أرتشف قهوتي ولم أفتح بعد قصص شريف، عندما عادت زوجتي لتخبرني بتفجير أوتوبيس أمام حي مدينة نصر وجامعة الأزهر على بعد خمسمئة متر من البيت. خفت على مي التي يقع التفجير في طريقها. لم أفزع الفزع الذي يُفترض بي، ولا أعرف لماذا؟ هل لأنني أعتقد أن الخبر المؤلم لا يتلكأ تلكؤ الأخبار المفرحة أم لأنني اعتدت بسرعة على العيش في حي منكوب؟!
كنت قد اخترت الإقامة في مدينة نصر، حفاظًا على صحة مي وأخويها. كانوا قد أعلنوا نتائج قياس لمستويات التلوث وقتها، وكانت مدينة نصر بشوارعها الفسيحة المستقيمة وحدائقها المتعددة الأقل تلوثًا بين أحياء القاهرة، ولم أكن أدري أن الشوارع الواسعة ذاتها تتمتع بإمكانيات تأمين تجتذب رجال الأمن، وتحتفظ بالسر أكثر مما جعلها مكانًا للإخوان، كذلك.
الآن، صار طالب الصحة مهددًا بالموت في المواجهة بين نوعين من الجيران لا يألفهما. صار انفجار القنبلة حدثًا عاديًا في مدينة نصر، وهذا السبب تحديدًا ـ وليس قلة حبي لابنتي ـ جعلني أفتح تليفوني لأطمئن عليها دون رجفة عظيمة، ثم بدأت صحبة شريف عبد المجيد مستمتعًا بطريقته في رواية القصة بلغة مقتصدة وحرية في التجريب سمحت بمحاورات الإنترنت والعناوين الإنجليزية ووجود الكاتب بنفسه راويًا داخل القصص. هشاشة العالم القصصي وعبثيته تشبه كثيرًا يومًا بدأ بانفجار قنبلة يدوية الصنع في ركاب أتوبيس النقل العام الذين يجترحون بطولات العيش اليومية من دون أن يرفعوا شارة رابعة أو خامسة ومن دون أن يقفوا أمام ميكروفونات ويتعهدوا بتجفيف منابع الإرهاب أو البؤس الذي يلاقونه!
ليس لدى من يموتون مجانًا سوى بطولة العيش بلا ادعاءات وليس هناك ما يدل عليهم، وليس هناك من ينتبه إلى وجودهم إلا ليستخدمهم وقودًا لحربه، مثلما لم يلحظ بائع الفاكهة الجوال الذي ينادي على برتقاله بالميكروفون وجود كائن بشقة في البناية التي يستهدفها يحاول التركيز في قراءة كتاب.
يقول المصريون ‘يا بخت من زار وخفف’ والكتب مثل البشر، الأنيق منها زيارته خفيفة، لهذا اكتفى كتابا شريف عبدالمجيد بالنهار وتركا لي الليل لفيلم Amistad الذي أوصاني به صديقي جمال عبدالناصر على أن نشاهده في التوقيت ذاته، كل منا في البلد الذي يعيش فيه، استئنافًا لتقليد مشاهدة مشتركة كانت ممكنة حتى ثلاثة أشهر مضت.
‘أمستاد’ هي السفينة الإسبانية المخصصة لأبشع تجارة في التاريخ، والكلمة تعني ‘الصداقة’ الأمر الذي يجعل سفينة نقل العبيد من كوبا إلى العالم الجديد متسقة تمامًا مع تقليد بشري عريق في السخرية من خلال تسميات للبشر والأشياء تتناقضــ تمامًا مع جواهرهم.
فيلم سبيلبرج، مباراة فذة في الأداء بين مورجان فريمان، أنطوني هوبكنز، ديجمون هونسو، وماتيو ماكونهي، ويحكي ببساطة قصة نزاع شهير وقع عام 1839على سفينة أفارقة من سيراليون تعتبرهم ملكة إسبانيا ملكًا لبلادها، كما يحاول ضابطان أنقذا السفينة إثبات أحقيتهم بملكية حمولتها من العبيد، بينما يتمسك الأفارقة بحريتهم، وتهدد القضية وحدة الشمال والجنوب الأمريكي، ويتعرض الرئيس إلى ضغوط تجعله يستأنف الحكم الصادر لصالح الأفارقة أمام المحكمة العليا لأن تشكيلها المنحاز لرؤية الجنوبيين يضمن إلغاء الحكم الأول وإغلاق طريق الحرب بين أنصار وخصوم العبودية، لكن المحكمة العليا تؤيد حكم الدرجة الأولى، وتترك للأفارقة الأحرار حريتهم.
من أجمل الجمل التي وردت بالفيلم قول الرئيس السابق حينها جون آدمز أنطوني هوبكنز- لعضو جمعية الدفاع عن العبودية ثيودور جودسون مورجان فريمان- : ‘سيكسب القضية من يعرف كيف يحكي قصته’.
وربما كانت العبارة صالحة منذ بدء التاريخ حتى اللحظة التي نطق فيها آدمز، الصالحون والطالحون الذين حكوا قصصهم ببراعة نجحوا: اليهود الأنبياء منهم والمحتلون، المسيح، ومحمد، كريستوفر كولمبوس، ونيلسون مانديلا، لكن براعة القص لم تعد تعني شيئًا، لأن الاستماع لم يعد ظاهرة بيولوجية بل سياسية.
لم تعد آذان البشر حرة كما كانت لكنها تنفتح للقصص التي يراد لها أن تكون مسموعة فحسب. الفلسطينيون حكوا قصتهم جيدًا لكن أحدًا لم يعط للقصة اعتبارًا، وفي زمن البث المباشر للعدوان ـ ابتداءً من غزو العراق إلى تفخيخ ثورة سوريا وإجهاض اليمن وتفجير ليبيا ومحاولة اختطاف مصر ـ لم تعد الشعوب بحاجة إلى براعة القص. الوقائع منقولة على الهواء مباشرة، ومع ذلك تخسر الشعوب قضاياها، لأن تجار النفط والسلاح قسموا الموت نصيبًا لسكان هذه المنطقة التي لم تعد حتى قصصها القديمة المروية جيدًا تشفع لها.
لا عبرة الفداء التي أعطاها المسيح ولا عبرة حب الحياة التي أعطاها محمد ولا عبرة السلام لديهما معًا منعت التفجيرات في بغداد والقاهرة وبيروت، وسوريا بالطبع، في أعياد الميلاد.
وإذا كانت أليس مونرو قد أفلتت بجائزة نوبل لبراعتها في القص هذا العام، فهذا مجرد استثناء لا يعني قدرة شريف عبد المجيد والقلة التي تتمسك بالقصة على كسب القضية.