هذا ما حدث 

فان جوخ

لم يكن  يعرف كيف يقود سيارة، رغم أنه حقق العديد من المآثر العملية التي يحسده عليها الآخرون.  وقد اعتاد طوال عمره أن ينظر بإعجاب إلى كل قائدي السيارات، ويعتبر أن مضي زمن القواد العظام الذين خلد التاريخ أسماءهم في معارك القتال المتلاحم لا يعني انتهاء زمن البطولات؛ فرمسيس الثاني، وخالد بن الوليد، و جنكيز خان، وصلاح الدين الأيوبي، ونابليون بونابرت قد تم استبدالهم بملايين من قائدي السيارات في العالم الذين ينطلقون بأقصى سرعة على شرائط ضيقة من الأرض تحدها الأخطار التي تتمثل في المباني والحواجز والترع و الجروف والمشاة غير الحذرين والدواب والسيارات الأخرى والتقاطعات مع خطوط القطارات وما لا يحصى من الأخطار.

وكان يعتبر أن خروج قائد السيارة منتصراً رغم كل هذه الأخطار هو أعلى آيات البطولة في هذا العصر؛ ولذلك فقد كان مندهشاً من الظروف التي وضعته داخل سيارة على طريق يتلوى مثل ثعبان أسود وسط الرمال التي تلمع تحت ضوء القمر.  ولا يعرف كيف ظهرت فجأة تلك المدينة بعد خمس ساعات من الانطلاق المتواصل للسيارة عبر منطقة تبدو أقرب إلى طبيعة الكواكب غير المأهولة؛ حتى إنه عندما يتذكر تلك الليلة لا يستطيع أن يقطع هل كانت تلك المدينة حقيقة أم مجرد طيف لمع لخياله.

يتذكر  أنه كان يريد أن يشرب شيئاً و يريح سيارته التي لم تكن تصدر أي صوت سوى حفيف ارتطام جسدها بالهواء، ولا يزال يستعيد طعم الفرح الذي حسه عندما لاحت له المدينة، ذلك الفرح الذي تبدد بعد جولتين في شوارعها أدرك منهما أنها مدينة عديمة النفع، حتى ولو كانت حقيقية؛إذ كيف يتعامل الغريب مع مدينة مستغرقة في نومها إلى هذا الحد؟!

بعد الجولة الرابعة، وعند النقطة القصوى من يأسه وجد نفسه خارج المدينة، أمام بناء ضخم يتلألأ بالأضواء، ينبعث منه ضجيج لا يحتمل، إلا أنه في تلك اللحظة كان شيئاً مبهجاً، أوقف سيارته ودخل إلى البهو الكبير المزدحم بالبشر المتدافعين أمام المصاعد الكهربائية الضخمة، ترك نفسه للتيار الذي حمله إلى داخل أحدها، وفي أول توقف وجد نفسه مدفوعاً إلى قاعة فسيحة يتصاعد منها الدفء والروائح المختلفة، وسط خليط متنافر من البشر، بعضهم يتحاور بلغات غير مفهومة، بعضهم يأكل أو يشرب، يكتب أو يرقص، أو يرتق جواربه، وبعضهم يلعب الورق.  وفجأة ظهرت  فتاة مدت له من عينها حبلاً من الحنان والفرح؛كأنها كانت تنتظره.

عندما اشتبكت عينه بعينها تذكر القمر، ويؤكد  أن هذا التشبيه لا يدخل في باب المجاز الفارغ الذي يلجأ إليه كتاب القصص الخيالية؛ بل هو إدراك تلقائي لحقيقة أن هذا الوجه الصغير غير المتناهي هو الذي كان يظلله طوال خمس ساعات من القيادة المتواصلة؛ نفس الاستدارة، والحاجبان الكثيفان غير المزججين هما اللذان كانا يبدوان على هيئة قوسين في الثلث الأعلى من قرص القمر وبينهما كان هذا الأنف الدقيق الذي يحرس الآن شفتين شهوانيتين، رغم ما يبدو حولهما من زغب الطفولة الذي يعتقد أنه كان لا يزال مبللاً باللبن.  أما العينان اللتان أمدتا الحبل فكانت لتسبيلتهما الداعية  وخز خنجر أغمد في القلب. 

ترك السيد يده ليدها تقوده إلى مقعد خال، استغرب وجوده وسط هذا الزحام، وأشارت إلى من أحضر له قهوته المضبوطة، دون أن تسأله، ووقفت في مواجهته تبتسم، ولكنه لم يكن يبتسم، إذ يقول إنه أدرك منذ النظرة الأولى أنه صار رهينة عند هاتين العينين، وأحس في تلك اللحظة باختلاط المشاعر الذي ينتاب الرهينة تجاه مختطف يعاملها برفق.

عندما انتهى من قهوته أخرج نقوده لكي يدفع فأومأت رافضة.  انحنى شاكراً، ومد يده مصافحاً في محاولة يائسة ليس  لاختبار قدرته على الفرار؛ بل  لاستكشاف طول الحبل.  ويقول إنها أمسكت بيده مذعورة، ويبدو أن مشهدهما جذب الأنظار؛ فتحول صخب المكان إلى صمت تام، وقد جمد كل واحد على وضع جسده عندما أمسكت الفتاة بيده؛ فداهمه إحساس بالخجل مثل خطيب اكتشف في ذروة انفعاله أنه يقف عارياً أمام الجماهير.

نـزع يده بعنف لم يكن يقصده، وجرى إلى سيارته.  أدار المحرك، ودون أن يجرؤ على الانطلاق وجدها تنقر الزجاج ففتح لها الباب سعيداً.

ولا يذكر كيف وجد نفسه يغادر المدينة والفتاة بجواره؛ بل هو في الحقيقة لا يدري إن كان غادر أصلاً، لأنه لا يذكر أنه رأى بعد ذلك القمر؛ يتذكر فقط ابتسامتها التي كانت تتسع كلما سألها عن اسمها.

عندما وصلا إلى البيت كانت مترددة في الدخول، أو هكذا تصور  ولكنها عندما دخلت فاجأته بأنها تتحرك بحرية من تعرف كل شبر في البيت.  كان متأكداً أنه بيته، لكن معرفتها بكل شيء فيه توحي بأنه بيتها.

تركها ودخل ليأخذ حماماً ساخناً اعتبره فرصة ليتأمل ما يجري له، وعندما خرج كانت تنتظره أمام العشاء، في فستان أزرق بزهور بيضاء صغيرة، لم يعرف هل ارتدته حالاً أم أنه هو الذي نسي من قبل أن ينظر إلى ما كانت ترتديه.

حاول أن يتحدث معها في أي شيء، لكنها كانت تكتفي بالابتسام، وتطعمه، ولما أشار لها بيده علامة الشبع، قامت وقادته إلى الفراش.

في الصباح وجد نفسه وحيداً، فتش عنها في كل الزوايا، وعندما لم يجدها انطلق مذهولا. ومنذ ذلك الصباح اعتاد المسافرون على الطرق الطويلة الملتوية أن يروا سيداً يقبض على مقود سيارته يسابق الريح بحثاً عن  مدينة نائمة، على بابها مبنى واحد صاخب، فيه فتاة سمراء.

“““

من المجموعة القصصية «مواقيت البهجة»