رفع يدها إلى شفتيه بينما يتابع الموسيقى بشغف

هاتفت أمها تطمئنها على وصولها. أخذت تصف الفندق، وتُحدثها عن المؤتمر. سألتها:

ـ متى يبدأ؟

ـ في العاشرة صباحًا.

عقَّبت الأم بأسى:

ـ كان يجب أن آتي معك.

ـ مامي، كنت ستشعرين بالملل وحدك، جلسات المؤتمر طوال اليوم.

عندما توادعتا. أحست خديجة بالارتياح. وضعت التليفون على طاولة الزينة، خلعت فستانها وعلّقته بالخزانة، وبدأت في فتح حقيبتها. استخرجت الملابس التي تكفي لأيام روما ورتبتها في أماكنها، رصت أدوات زينتها على التسريحة وأدوات النظافة على طاولة الحمّام. وحملت بُرنس الاستحمام، ومضت لتغتسل. تأملت نظافة الأشياء، وارتدت قفاز التنظيف الذي تحرص على حمله بين أشيائها، أحكمت سدادة تصريف البانيو وأفرغت زجاجة من شامبو الفندق وفتحت القليل من الماء، وطوقت البانيو جيدًا، ثم فتحت الماء مجددًا  وتركته ينساب جارفًا الرغوة حتي اطمأنت إلى النظافة. ضبطت حرارة الماء على درجة الدفء التي تحبها، نزعت قميصها واعتمرت الواقي البلاستيكي حتى لا يتبلل شعرها ودخلت تحت الدوش. بعد أن اغتسلت جيدًا أغلقت فتحة الصرف، وتوسدت البانيو وأخذت تراقب ارتفاع الماء على ساقيها. عندما غمرتها المياه أغلقت الصنبور وأغمضت عينيها، مستمتعة بدغدغة الماء، حتى أحست بتناقص الحرارة فقللت إحكام سدادة الصرف، ثم وقفت واغتسلت مجددًا، وارتدت البُرنس ومضت إلى واجهة الغرفة تتأمل الأفق المُذهّب بشمس آخر النهار، مستمتعة بلمسة برد خفيفة تدغدغ جسمها. زفرت ارتياحًا ببعدها عن رائحة الدخان وقسوة أغسطس في القاهرة «الأقل من جهنم بدرجتين» كما تصفه عادة.

أحست بروحها خفيفة؛ فعادت إلى الحمَّام، خلعت البُرنس وعلَّقته بالمشجب، ومضت عارية إلى الخزانة، التقطت الكيمونو الأبيض المزين بفرع كرز مزهر، ارتدته، ووضعت على وجهها لمسات زينة خفيفة، ثم غمرت نفسها بسحابة من العطر.

وارب جمال باب غرفته، ووقف يتأملها. انسابت من تحت ذراعه ومرقت إلى الداخل. أغلق الباب، وأمسك بأنامل يديها، رفعهما إلى شفتيه يُقبلهما. أحست في قبلاته زفرات الأسى التي تعرفها، فأدركت أن سؤال السائق لم يزل يؤلمه. سحبت يديها من يديه وتجاوزته إلى عمق الغرفة، جلست على حافة السرير بينما دار من الناحية الأخرى، واستلقى خلفها، يطالع وجهها في مرآة التسريحة المقابلة.

ـ تريد أن تنام قليلاً؟

ـ أشعر بالنعاس تحت جفوني، لكن رأسي يقظٌ.

أخذت تزحف باتجاهه حتى لاصقته. طوقها بذراعه، وأمالها فاستلقت إلى جواره. سكن في حضنها ينصت إلى نبضها تحت ذراعه التي تطوق صدرها، تهبط وترتفع مع إيقاع تنفسها المنتظم. جذبها إليه أكثر، وأخذت أصابعه تتلمس طريقها إلى عُقدة حزام الكيمونو.

أمسكت يده، وهمست:

ـ  لم يبق الكثير على موعد الأوبرا.

ـ هل لابد من الخروج الليلة؟

غمزت له باسمة في المرآة. واحتفظت بيدها فوق يده المستريحة على بطنها. ألصق شفتيه بظهرها، وأنصت مجددًا لتنفسها. أخذ يضبط إيقاع شهيقه على إيقاعها، تمادى في اللعبة واستغرقته. بعد دقائق أحس بانتظام تنفسها الرهيف، وسرعان ما سحبته وراءها للنوم.

عندما أيقظته لمساتها، لم يتبين إن كان الوقت مساء أم صباحًا، ولم يعرف أين هو. أخذت تهزه:

ـ دُبْي الكسلان.

لم يرد، مستغرقًا في امتحان ذاكرته. انزلقت من السرير، وأضاءت النور. عادت إليه، وهزته مجددًا:

ـ ارتد ملابسك وتعال إلى غرفتي أريد أن أستشيرك فيما أرتدي.

عندما خرجا، لم يكن بالشارع  الضيق سوى القليل من المشاة، سارا ذراعًا بذارع، أخذ ينصت لدقات كعبها العالي على رصيف الحجارة البازلتية السوداء، وأخذ الزحام يتزايد حولهما، مع الانعطاف إلى شارع أوسع. بعد لحظات، صارا في ساحة واسعة مزدحمة بالبشر الصاخبين، تتوسطها مسلة فرعونية. قالت خديجة:

ـ بياتزا ديل بوبلو، أشهر ساحات روما.

قطعا  الساحة إلى أحد الشوارع المتفرعة منها. أشارت خديجة إلى لافتة الشارع على جدار البناء الأول بالشارع:

ـ ديل كورسو. أرقى  شارع تجاري في المدينة.

ـ إذا كانت الكنيسة بعيدة نأخذ تاكسي.

ـ لا، هي قريبة جدًا.

 وأشارت إلى برج الكنيسة، وسحبته من يده إلى الرصيف، تمس الأرض بخفة وهو يجتهد ليضبط إيقاعه على خطوها.

 في مدخل الكنيسة وقفت سيدة تدقق البطاقات. سلّمتها خديجة نسخة مطبوعة من الحجز الذي أجرته عبر الإنترنت. كانت المقاعد التي لا تتجاوز الخمسين شبه مكتملة، والحضور يثرثرون بهمس يتردد صداه في بهو الكنيسة القوطية. أخذا مكانيهما بين الحضور.

همس في أذنها مبتهجًا:

ـ أجمل وظيفة لدور العبادة!

ـ نعم؛ أصبح هذا معتادًا في أوروبا.

 مالت عليه وخطفت قبلة من خده. ضغط يدها في يده. خفتت الإضاءة فانغمرت القاعة في الصمتُ. أقبل شخص من ظلام البهو الداخلي. دوت القاعة بالتصفيق، قدّم الرجل اختصارًا لموضوع الأوبرا، لم يلتقط منه جمال سوى اسم العمل «لابوهيمي» وأخذت خديجة تهمس إليه بملخص القصة. بعد أن انتهى مقدم العرض من كلماته، جاءت الممثلة فقدمها بدعابات، تجاوبت معها الصالة بالضحك، وتوالى دخول الممثلين وتوالى التصفيق كلما دخل أحدهم، ثم بدأ العرض.

لم يُفلت جمال يد خديجة من يده. بين وقت وآخر يرفعها إلى شفتيه ويُقبلها، بينما يتابع بشغف، تحمله موسيقى بوتشيني عاليًا وتحطه على سطح بحر هادئ، ومع تقدم العرض أصبحت مشاعره مركبة، بين الحزن على ميمي المريضة وفقر جارها الشاعر رودلفو وزمرة الفنانين، وبين الغيرة من سعادتهم التي يواجهون بها الفقر والبرد.

بعد انتهاء العرض توجها لتناول العشاء. كانت الموسيقى لا تزال تتردد بقلبه. توقف فجأة، واستدار ليطالع وجهها:

ـ شكرًا حبيبتي، لا أعرف كيف أعبر لك عن شعوري الآن.

تعلقت برقبته وهمست:

ـ شكرًا لأنك معي.

شدد ذراعيه حول خصرها، تتنازعه البهجة والقلق، وحملها. قبّلها على شفتيها.  أنزلها برفق، واستأنفا السير. «الحرية جميلة» يعرف أن الاحتضان والتقبيل في الشارع من الأمور العادية في أوروبا، لكن المعرفة لا تعني شيئًا دون أن يختبرها المرء بنفسه. همس:

ـ أشعر أنني إنسان.

ــــــــــــــ

فصل ١٥ من يكفي أننا معًا