سينما صيفى  قصة لشريف عبد المجيد

سينما الهلال

اليوم أكملت عامك التاسع وذهبت مع أخيك الكبير لترى فيلم الباطنية، ذلك الفيلم الذى حقق إيرادات خيالية وعرض بعد عرضه فى وسط البلد بشبرا وبولاق، وحضرت عرضه الأول فى سينما الهلال الصيفي، وكان يحضر العديد من أبناء الحى لمشاهدة ذلك الفيلم الذى كان بطولة نادية الجندى وفريد شوقى ومحمود ياسين والممثل الشاب أحمد ذكى الذى أحبتته جدًّا، وكنت تعتبره بعد ذلك عندما كبرت ممثلك المفضل والمعبر عنك على الشاشة الكبيرة.

كانت البنات تقف فى البلكونات المطلة على السينما تشاهد الفيلم وكانت ربات البيوت يذهبن لتلك السينما فى فترات متقاربة ليشاهدن ثلاثة أفلام فى بروجرام واحد، وهن يقمن بعمل خلطة المحشى ولف ورق العنب قبل عودة الأزواج من العمل. كانت سينما الهلال الواسعة الكبيرة التى ليس لها سقف لأنها السينما الصيفى الوحيدة بشارع قدرى، هى ملاذك الذى كنت تهرب منه لعالم الشاشة الكبيرة حيث ينتصر الخير على الشر ويُقتل الأشرار، تتذكر الآن تلك الفترة بوضوح جلى، هل لأنك  قاربت على الخمسين وصرت كهلًا لا يرى السينما أم لأن تلك الأيام لا يتذكرها أحد سوى أبناء جيلك. تتذكر الآن وأنت تطلب شاي كشرى من المقهى الكبير المقابل لدار العرض الكبيرة بعد مرور حوالى أربعين عامًا على تلك اللحظة، وكأنك لا تزال ترى ذلك  الطفل الصغير الذى كان فرحًا جدًّا بسندويتش الجبنة الرومى وسندويتش اللانشون وسندويتش الحلاوة، ويسأل أخاه الكبير كل خمس دقائق، إن كان قد نسى السندويتشات أم لا وتشتريان سويًا كيسين من الشيبسى وبربع جنيه سودانى وبربع جنيه لب أسمر  وتتذكر أيضًا ذلك اليوم الذى تعارك فيه شباب شارع الخليفة مع شباب السيدة بسبب بروسلى ولولى، فقد كان هناك محبون لبروسلى كثيرون جدًّا وكنت أنت منهم، وكانت هناك فئة محبة للولى البطل المشهور الذى كان يحارب بروسلى ويصارعه، وكانت معركة كبيرة أسفرت عن خسائر هائلة فى تلك القهوة التى تجلس عليها الآن ولم تحل المشكلة إلا بعد أن جلس معكم أحد الشيوخ الكبار فى الشارع وأقسم لكم أن لولى وبروسلي هما أخوان، ولا يصح أن تتشاجروا بسبب اتنين إخوات بيتعاركوا.

فى ذلك اليوم عدت من السينما بعدما شاهدت الفيلم الهندى وفيلم بروسلى وفيلم الباطنية.

كنت أبكى بحرقة فى غرفتى لأن بروسلى ذلك الشاب المقاوم للظلم قد قتله مدربه؛ لأنه جعل العالم يعرف أسرار لعبة الكونغوفو الصينى، ولكن ظل عالقًا بذاكرتى البطل الأسمر أحمد ذكى الذى كان يقوم بدور شخص أبله لا يتكلم، وفى نهاية أحداث الفيلم كشف عن شخصيته الحقيقية كضابط شرطة تم زرعه وسط المجرمين وقام بضربهم بحركات كاراتيه مذهلة. كانت سينما الهلال هى مكان الأحلام الخاص بى، فعندما يتم الانتهاء من عرض الفيلم الثالث يُعاد عرض الفيلم الذى عُرض أولًا، وهكذا يخرج معظم الناس بينما أظل أنا أتابع إعادة عرض الفيلم، حتى أننى كنت أحفظ معظم جمل الحوار وكانت متعتى السرية الأخرى أن أجلس جوار أشخاص حضروا متأخرين، أرى دهشتهم بالأحداث التى أعرفها مسبقًا وأن أحكى لأخى المشاهد المهمة قبل حدوثها بصوت عالٍ وكأنى أحد صناع الفيلم.

سينما أوديون

 فى العيد  كنا نقوم سويًّا أنا وأخى بارتداء ملابسنا الجديدة، ثم نتجه مع أبى من شارع الخليفة إلى جامع طولون نصلى الظهر ونشرب عصير قصب من فواكه الرحمن الذي يقع مكانه بالضبط أمام المسجد، ثم نركب التاكسى لننزل فى شارع طلعت حرب. من طلعت حرب ندخل يسارًا نأكل سويًا كبدة ومخ وسجق من الرجل الذى يقف بعربة الكبدة بجوار السينما، ثم نشرب ثلاثة ميرندا برتقال ونشترى لبًا وسودانى، وفى تمام الثالثة والربع نكون جاهزين لرؤية فيلم تسجيلي قصير ثم كارتون نقار الخشب، وبعدها نشاهد فيلما لبودسبنسر نجم الثمانينيات بلا منازع، ذلك النجم الإيطالى العملاق مع شريكه فى أفلام الإسباجتى والكاوبوى الأمريكى ترانس هيل، كانا يشكلان ثنائيًا كوميديًا لطيفًا، يقدم أفلامه بروح ساخرة على أفلام الكاوبوى الأمريكى بخلطة إيطالية. كانا يذكرانى بشكل أو آخر بأفلام لوريل وهاردى ولكن بأفلام ملونة. كانت تلك الفترة هى فترة هدوء فى العالم واستقرار قبل أفلام سلاسل أفلام روكى وسلفستر وجاكى شان، وقبل أن يمتلئ العالم بصراعاته المعقدة، وبعد انتهاء الأفلام نعدو لمسجد السيدة زينب نصلى ونكبر تكبيرات العيد مع صلاة العشاء، ونصلى الصلوات الفائتة علينا، كانت أيام جميلة وما زلت كلما مررت من أمام سينما أوديون أبحث عن أفلام سينما زاوية، وبعد تغير ذوقى السينمائى والشعيرات البيضاء التى غزت رأسى، لا أزال أبحث عن أفيشات أفلام بود سبنسر الذى قرأت اليوم خبر وفاته على شبكات التواصل الاجتماعى عن عمر يناهز 86 عامًا.  وبينما كنت أحاول إقناع ابنى برؤية السينما فى قاعات العرض، أخبرنى أنه يفضل رؤية أفلامه على شاشة جهاز اللاب توب الخاص به وهى أفلام فى أغلبها يتبادلها على فلاشات الكمبيوتر مع أصدقائه، وعندما شعر بحزنى الحقيقى على بودبنسر قال لى إنه ممثل لأفلام محدودة القيمة تشبه أفلام فؤاد المهندس التى لا يحبها.

سينما مترو

كنت فى سينما مترو أتصنع عدم الاهتمام لتأخرها على الموعد وفى يدى تذكرتان لحفلة السادسة مساءً، حيث سيعرض فيلم تيتانك الذى حاز  شهرة لم ينلها فيلم من قبل فى تاريخ صناعة السينما. كانت القصة معروفة للجميع، قرأت كل ما كُتب عن الفيلم، عن نماذج سفينة تيتانك والتوسع فى استخدام الكمبيوتر فى العديد من المشاهد بتكلفة قاربت الـ200 مليون دولار، مع قصة الحب الكبيرة التى كانت بين جاك وروز.

هذه القصة التى كانت حلمًا يداعب كل الشباب فى ذلك الوقت، مع انتشار الكمبيوتر فى مصر وتعرف الناس على الإنترنت. كان هذا هو الوقت الذى اشتريت فيه أول جهاز كمبيوتر خاص بى، وكنت أسمع كل يوم تقريبًا أغنية سيلين ديون التى كانت تذاع مع مونتاج للقطات من الفيلم.

كان هذا اليوم هو موعدى الغرامى الأول فى السينما، بعيدًا عن رحلاتى السينمائية السابقة مع أخى لسينما الهلال الصيفى ثم مع أخى وأبى لسينمات وسط البلد.

كنت أقرأ كل شيء مدون على التذكرة، كنت مقررًا أن أحتفظ بها لسنوات طويلة، بقى على الوقت عشر دقائق ويدخل الجميع القاعة.

 (جاءت) مسرعة، ورأيتها تقترب وهى تقريبًا تجرى ناحية السينما، وعندما لمحتنى ضحكت وبانت غمازتاها الجميلتان. ومشت فى هدوء، كأنها لم تكن تجرى منذ دقائق قليلة.

رحبت بها، كان يدور فى ذهنى حلم أن أقبّلها عندما يُقبِّل جاك روز كما قرأت عن أحداث الفيلم، وعندما حانت اللحظة المناسبة اكتشفت أن كل الشباب فى السينما، كانوا قد اتخذوا قرارات مشابهة فى الأيام السابقة التى عرض فيها الفيلم، ولهذا كانت إدارة السينما قد شددت الحراسة ونثرت عامليها بكشافاتهم البغيضة على بعض أركان السينما وبجوار الأبواب، وعندما تم القبض على عاشقين وهما يقبلان بعضهما توقف عرض الفيلم وسط صافرات الجماهير فشلت خطتى .

رغم إعجاب الجميع بالفيلم الذى رشح بعد ذلك لأربع عشرة جائزة أوسكار، حصل على إحدى عشرة جائزة منها وحقق إيرادات بلغت 2 مليار دولار، تذكرنى أغنية سيلون ديون بقصة حبى الساذجة فى تلك الفترة ، أما الكوميكس الساخر المنتشر على صفحات الفيس بوك حول( شاك والبنت روزا) فيشعرنى بأن العرض الأول للفيلم قد مرت عليه قرون

سينما الهلال

ها أنت تعود وقد بلغت اليوم عامك السادس والأربعين، بعد أن تركت شارع الخليفة بعد تنكيس بيتك فى زلزال 1990، ثم انهياره فى عام 2000.

تعود اليوم كرجل متزوج وأب لطفلين، مثقلًا بحكايات تود أن تسجلها عن الناس فى شارع الخليفة، لا يطاوعك قلمك أبدًا أن تتذكر تلك الأيام الخوالى، وقت لعب الكرة الشراب؛ ركوب المراجيح فى مولد السيدة سكينة؛ والصعود هناك فوق تبة جبل قلعة الكبش؛ تطير طائرتك الورقية ذات الألوان الزاهية، هذه التبة التى ملأتها صخبًا باحثًا مع أصدقاء الطفولة والشباب

عن زهر الليمون فوق أشجاره الباسقة، ذلك الليمون الأخضر الذى كان طعمه مرًّا ولكنه جميل، حيث جرفت الجرافات تلك الغابة وأزالت التبة لتبنى عليها مساكن الزلزال، وحيث لا أحد من جيلك يسكن فى الخليفة، فالكل ذهبوا لمساكن النهضة والعبور،والشيخ زايد وأكتوبر و تركوا المنطقة وتزوجوا وعاشوا فى أماكن أخرى مثلما فعلت.

تعود لتجلس هناك فى مقهى السيدة جوار محل السوبيا القديم، الذى كان أشهر محلات السوبيا فى منطقة الخليفة، تتذكر كيف كنت تقف لما يقرب من ساعة قبل الإفطار لتشترى من محل (سوبيا توتو) المتخصص فى السوبيا فقط كوبين متتالين، وتتلفت حولك باحثًا عن سينما الهلال الصيفى لنجمها الشهير الأوحد طوال أيام طفولتك نجم الترسو فريد شوقى وغريمه الأبدى محمود المليجى، فلا تجد لها أثرًا سوى تلك الأرض المهجورة التى أجابك أحد العاملين بالمقهى أنها ستتحول لمول متخصص فى الملابس المستوردة من الصين.

ـــــــــــ

من المجموعة القصصية الجديدة: صولو الخليفة