توك شو

قصة: شريف عبد المجيد

وصلت العربة التى ستقلها من ميدان عبد المنعم رياض إلى الاستوديو فى تمام الخامسة مساء قبل بدء البرنامج الشهير بساعتين. كانت التجهيزات تجرى على قدم وساق تجهيز؛ الإضاءة وتحضير الديكورات والبنارات والكرين، صار المكان كخلية نحل عمال الصوت يختبرون الميكسرات وعمال الإضاءة يضعون الفلاتر فوق علب الإضاءة الكبيرة ويضعون الكاميرات وفق التصور الذى أعده مدير التصوير والمصورون يجهزون الكاميرات على وضع بدء التصوير ومساعدو الإخراج يحددون أماكن جلوس الضيوف.

وها هى  تقف بجوار زملائها من الذين سيجلسون وكأنهم جمهور حضر للبرنامج  عملت فى هذه المهنة منذ سنتين بتوصية من عم كمال مطرب الخليفة المتقاعد وجارهم الذى يعمل أحد أبنائه فى مجال الإخراج، ما زلت تذكر عندما جاءت لابن عم كمال الذى وصى عليها تليفونيا وطلب من ولده أن يساعدها لأنها فتاة موهوبة قال لها إن العمل فى الفن أمر صعب، وذكرته بأن الفنان نور الشريف ابن شارع الخليفة بدأ كذلك بأدوار صغيرة حتى صار واحدًا من أهم نجوم السينما العربية، أخبرها بأن الظروف تغيرت ولم يعد أحد يساعد أحد.

والمتاح أمامه هو عملها فى البرامج وهو عمل مريح ويجعلها قريبة من الأضواء وكل المطلوب منها أن تصفق وتجلس وسط الجمهور وتتفاعل وفق إشارات الشخص الذى يقف فى المنطقة العمياء خلف الكاميرات، عندما يشير لهم بعلامة معينة فإنها تصفق وعندما يشير لهم بطريقة أخرى تضحك أو تصفر تعمل ثمانى ساعات فى الاستوديو وتحصل فى النهاية على وجبة فاخرة ومبلغ مائة جنيه، وإذا اهتمت بمظهرها فيمكنها الحصول على أجر مائة وخمسين جنيهًا، وذلك غير المواصلات من مدينة الإنتاج الإعلامى وحتى التحرير على حساب البرنامج أما المواصلات من التحرير إلى بيتها فى الخليفة فلن تكلفها شيئًا؛ لأنها مسافة قريبة. فكرت وقررت أن تنتهز الفرصة فالفرصة لا تأتى إلا مرة واحدة كما يقولون لها فى كل مكان  على الرغم من أن هذه المقولة دائمًا ما يتم استغلال طموحها وتخفيض أجرها بعدما توافق عليها.

كان يحدوها الأمل فى أن يراها مخرج سينمائى ويستعين بها فى أحد الأدوار  وبذكائها الفطرى أتقنت العمل الذى كانت تراه سهلًا جدًّا، وصارت تطلب بالاسم

 كجمهور فى معظم برامج التوك شو ليس ذلك فحسب بل إنها تفوقت على نفسها

وصارت أحيانًا تقوم بدور المتصلة صاحبة المشكلة فى بعض البرامج المسجلة،  خاصة التى يصور منها ثلاثون حلقة لرمضان وأدت بعض الأدوار الصغيرة فى مسلسلات رمضان كأن تمر من أمام البطل والبطلة فى الحارة التى تدور فيها أحداث الفيلم، وأحيانا تجلس خلف طاولة الحبيبين فى الكافتيريا أو عندما يجلس الأبطال فى ملهى ليلى أو كازينو  فهى تجلس فى إحدى الطاولات مع شخص يبدو وكأنه حبيبها أو صديقها.

لم تقبل العمل فى مكاتب الريجيسير ولا تتعامل سوى مع الوكالات الحديثة التى تطلب ممثلين أو أصحاب أدوار صغيرة أو جمهور فى برامج توك شو كبيرة، خاصة المكاتب التى فى المهندسين أو فى وسط البلد أو الزمالك وعملت بنصيحة المخرج الشاب ابن عم كمال بأن لا تجلس أبدًا فى مقاهى وسط البلد، خاصة التى يتجمع بها الكومبارس وأنصاف المشهورين فهى لا بد أن تتعامل مع نفسها كنجمة

على المونتير الكبير، بدأ العد التنازلى بعد خروج المذيعة من الكوافير وجلوسها على مقعدها الوثير وشاهدت المذيعة نفسها للمرة العشرين وطلبت ضبط الإضاءة على وجهها ثم على شعرها الذى قررت أن تطلب الكوافير والمكياج ليجروا تعديلات أخيرة على وجهها ولمَ لا وهى أشهر مذيعة توك شو فى مصر وبرنامجها يحقق إعلانات بالملايين، وهى نفسها تحصل على أجر سنوى يتخطى 10 ملايين جنيه.

البرنامج يتكون من ثلاث فقرات؛ الفقرة الأولى مع عالم اجتماع يتحدث حول مشاكل اجتماعية وظواهر يراها فى المجتمع من خلال الحوادث الغريبة التى انتشرت فى الفترة الأخيرة.

الفقرة الثانية مع مطرب كبير زالت عنه الأضواء قليلة وستقوم بعمل مواجهة بينه وبين مطرب مهرجانات، وفى الركن الخاص بالمطبخ سيتم عمل طبق اليوم بناءً على اتصالات المشاهدين على صفحة الفيس بوك فى اليوم السابق، أما الفقرة الثالثة ستكون مع طبيب شهير يتصل به المشاهدون ليقرر لهم بعض العلاجات وتقديم الاستشارات المناسبة، وهو طبيب متخصص فى مرض السرطان ولكنه يجيب عن أسئلة المشاهدين حول جميع الأمراض.

بدأت الفقرة الأولى وهى تفكر، ماذا يمكن أن تفعل لتعبر الخط الفاصل بين الجمهور وبين ضيف البرنامج، والمذيعة؟ فى هذه اللحظة لم تفكر فى النجومية ولكن أن تنبه المذيعة لمشكلة أمها المريضة بالسرطان، فكم من برامج شاركت فيها وهى تعرف أن كل شيء متفق عليه مسبقًا وأن المتصلين فى أحيان كثيرة يعملون بالأجر مثلها،  ولكنها ربما  إذا عبرت ذلك الخط والبرنامج على الهواء ستضطرالمذيعة أن توافق على علاج أمها.

صفق الجميع بعد نهاية الفقرة الأولى وهى لأول مرة لم تستطع أن تجارى الموقف، ولاحظ ذلك المسئول عن الجمهور، وشعرت أنه رآها بعد الفاصل اقترب منها:

  • الأستاذة جاية تعمل إيه معانا؟
  • والله يا باشا أنا نسيت
  • نسيتى؟! ماشى ..  تعالى إنتى. وأشار بيده لفتاة أخرى تجلس فى الصفوف الخلفية.

وأشار لها بأن تجلس فى الصفوف الخلفية

كانت فقرة المطرب قد بدأت بعد العودة من الفاصل وكان عليها أن تصفق وأن تتمايل مع حركة الكاميرات، بينما كانت دموعها تنساب على وجنتيها.

بدأ الفاصل الثانى وكانت هى قد ذهبت للحمام، وتعمدت أن تتأخر وقبل بدء الهواء بثوانى كانت هى مزروعة فى وسط الديكور تقف بين الضيف والمذيعة.

قرر المخرج أن يأخذ الصورة من كاميرا ثانية لا تظهرها وكانت هى تتكلم، ولأنه لا يوجد معها مايك فلم يسمعها الجمهور تكلمت المذيعة مع الضيف وكأنها غير موجودة، ولكنها اقتربت من الضيف جدا فظهرت فى الكادر.

كلمتها المذيعة: أنا عارفة مين اللى خلتك تعملى كدا، أكيد برلنتى مذيعة القناة المنافسة ليا، إنما مهما عملت هفضل أنا أهم مذيعة توك شوك.

 تكلمت المذيعة مع المخرج من خلال الأيربيس وطلبت الخروج لفاصل استثنائى،

تعاطف معها الطبيب ولكنه بعد ما فعلته المذيعة لم يتحرك حتى لا تفشل الحلقة ويخسر المذيعة الشهيرة..

بعد الخروج للفاصل قام المخرج بتعنيفها من خلال الكنترول روم وطلب من مساعديه أن يطردوها خارج الاستوديو.

  • كلمت مدير الإنتاج؟ أمى بتموت ومحتاجة قرار علاج على نفقة الدولة.
  • هى الدولة هتعملكم إيه ولا إيه؟! بطلوا شحاتة بقى.
  • طيب فلوسى أنا عايزة الـ150 جنية بتوعى.
  • مالكيش حاجة عندنا وإحمدى ربنا إنى معملتكيش محضر تعدى على البرنامج.

خرجت من الاستوديو وهى تبكى بينما المذيعة كانت تتكلم فى حلقتها عن المنافسة الشديدة والغيرة والمؤامرات التى تتعرض لها كضريبة على نجاحها، وعن قلبها الطيب الذى سيجعلها تبحث عن الفتاة المندسة على البرنامج لتحاول مساعدتها وسط تصفيق الجماهير المتحمسة..

الحريق

النار المتقدة كنار جهنم تتصاعد كما المارد الجبار وقودها الحطب والقش رآها الناس بأم أعينهم يصنع لهيبها أشكالًا لمردة وجن وعفاريت، في وسطها وجوه الذين ماتوا أو الذين غرقوا في بلاد الله؛ خلق الله في إيطاليا واليونان والعبارات ووجوه المفقودين من سنوات طويلة..

تتراقص النار كطقس وثني عابرة من بيت لبيت ومن سطح لسطح يمسك آخر وهج من اللهب بأول حبة قش كما عرس، وكأنها يد العروسين تتقابلان لا ينقصهما سوى المنديل والزغاريد والناس تخرج مذعورة من البيوت، تأتي عربات الدفاع المدني والإسعاف … لا أحد يعرف كما المولد الذي يأتي إليه العاشقون والسارقون والمحبون والمنافقون في زفة الليلة الكبيرة الكل يهرول ويجري، الاختلاف هنا بدل أصوات المنشدين وتهليل المداحين نجد أصوات الصريخ والعويل التي تتصاعد إلى آخر حدود السماء..

  • كل ده من غضب ربنا
  • اللي حضر العفريت لازم يصرفه
  • تحويشة العمر ضاعت كل الذل اللي إتحملته في الغربة عشان السقف المسلح والأربع حيطان راح في غمضة عين..

كل فرد من أفراد القرية يجري في اتجاه، البعض تجاه الماء والبعض الآخر في اتجاه الخلاء، الكوز والزير والحلة والخرطوم والشفشق والجردل هي أداوت المقاومة وكل واحد ومقدرته، عربات الدفاع المدني إما معطلة من ضيق الطرق أو لا يصل إليها الماء والفاعل طبعًا سيكون مجهول كالعادة..

النار تأكل في تلذذ ما تشاء وقبل أن تهضم بيتًا تذهب لتأكل بيتًا آخر خرابًا آخر،  هول المشهد لا يمكن وصفه..

يجرى البعض حاملًا تلفزيون أو مكواة أو أوراق ملكية هذا وقت النار تفعل ما تشاء لا أحد يقدر عليها، واللهب يخرج لسانه للجميع وشيخ الجامع يتحدث في الميكرفون: ربنا قدر ولطف، وكل شيء يتعوض مادامت الأرواح سليمة ومفيش فيها خسائر ولكنهم يتساءلون؛ من الذى قال إن الأرواح سليمة  والخراب لم يترك مكانًا إلا وعشش فيه، يا نار كوني بردًا وسلامًا هكذا تابع شيخ الجامع كلامه: اللهم ابعد عنا الجن والعفاريت والمردة، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وابعد عنا الخبث والخبائث.

نفوسة العمشة راح نقتلها ومحدش منا هيهوب ناحية بيتها يا رب ابعد عنا النجاسة والنفس الأمارة بالسوء والفاحشة، هكذا ردد بعض أهالي القرية.

بلدنا النار سارحة فيها والخوف مالي القلوب

سعيد الحرامي قال والله لا أتوب ومش هسرق بعد كده بس يا رب نجينا

ما كان من الأول يا سعيد، سرحان اللي بيسلف الفلاحين بالفايظ ما حدش عارف مين اللي ولع بيته، مع إنه ساكن بعيد عن مركز الحريق فى ربوة عالية فى أول البلد عربات الدفاع المدني لا تعمل والموجود منها يتحرك ليس به خراطيم ماء.

يا رب من غيرك ينجينا العفاريت سكنت وعششت في كل حتة فيكي يا بلد..

ولأن لكل شيء نهاية انتهى الحريق فجأة كما بدأ فجأة..

الناس حمدت ربها وكل واحد راح يشوف حاله وإن كان الخوف لسه مالي قلوبهم..

في اليوم التاني وتقريبًا في نفس الميعاد إتجدد الحريق

  • مش قولتلكم يا جماعة ده شغل عفاريت
  • يا عم هي المشرحة ناقصة قتلة
  • نقطنا بسكاتك
  • سلام قول من رب رحيم
  • اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا

قررت الحكومة بعد كلام كتير ورغي كتير ووسايط أكتر إنها تشكل فرق من البحث الجنائي لتبدأ التحقيق مع سكان القرية لمعرفة ملابسات الحادث وأسبابه..

ناس بتقول الجن هو السبب، وناس بتقول قلة مندسة، وناس بتقول عناصر خارجية

يا خلق يا عالم حد يدلنا مين السبب في الحريق؟!

ودارت الأيام والحكاية تكبر كل يوم  والنار تأكل في البيوت والزرع والشجر والبقر والحمير والجاموس والحيطان، والقش والعويل والمفتح والذكي والناصح والحريص والفقير والغني وبعد أيام كتيرة جاء تقرير المعمل الجنائي وأتت عربة الحكومة تنادى من الميكرفون:

  • يا أهل البلد سبب الحريق تحلل روث المواشي

إتخلصوا يا بشر من روث البهايم ولن تحدث حرائق أخرى. هكذا تكلم شيخ القرية.

روث مواشي؟! بقى ده كلام يدخل العقل؟! مرة يقولوا قش رز ومرة يقولوا روث مواشي، يا مثبت العقل في الدماغ روث مواشي؟! أمال ليه زرايب البهايم مش بتولع؟! وليه الحتت اللي جمب الطريق اللي مليانة روث مواشي مش بتولع؟ طب سيبك من ده وده، إزاي الحريقة بتتنقل من سطح بيت لسطح بيت تاني ولا الصور والأشكال اللي بيعملها اللهب..

الشيخ الغريب

الشيخ الغريب سره باتع دخل البلد وعمل الرقية الشرعية وكل واحد دفع ما فى القسمة ومر أسبوع عليكي يا بلد لا حصل حريق ولا حاجة..

اليوم العاشر

النار….. النار في كل مكان من سطح لسطح بتمشي وكأنها واحد رايح يتفسح على الكورنيش براحته..

وشيخ الجامع ومعاه ناس كتير بتصلي وتبكي، بتصلي وتبكي، وتبكي وتصلي، يا ناس اتقوا ربكم..

واللي عمالين يهربوا من البلد هيروحوا على فين؟! طب ما رب هنا هوه رب هناك..

 احتموا بالدعاء واعرفوا إنه الملاذ الأخير، ده الدعاء مخ العبادة يا ولاد الكلب..

النار سارحة والقرآن شغلوه أربع وعشرين ساعة كما قال الشيخ البعيد لكنه فجأة بيقلب على أغاني ورقص..

 أكيد هوه شغل جن إحنا فاهمين كل حاجة

يا ناس إتقوا الله دي البلاد التانية طلعت القمر

يا شيخنا إحنا تعبنا ومن لا يعرف يقول عدس..

الناس باتت في الخلا بس شرط الحماية من النار حتى لو في الخلا هو القلب السليم وكل واحد بقى يسبح ويكبر ويستغفر ربه قبل الموت..

والحكومة لسه ماشية بعربيتها اللي زادوا وبقوا تلت عربيات وتقول للناس على حكاية المادة العضوية وتحكى عن روث البهائم..

لم يصل أحد للحقيقة، لا أحد يعرف الحقيقة، كيف بدأت النار ولا أسباب اشتعال النيران ولماذا عربات الدفاع المدني عاطلة عن العمل وخراطيم المياه لا يصل إليها الماء والناس بعضهم هج وترك البلد والبعض الآخر احتمى بالجامع كجدار أخير للحماية مما يحدث من وقائع لا يفهمها أحد، بيبكوا ويصلوا ويصلوا ويبكوا ولا يدور على ألسنتهم سوى سؤال واحد

يا خلق هوه إيه أصل الحريق ومصدر اللهب فين..؟؟!!

ـــــــــ

من المجموعة القصصية الجديدة للكاتب «صولو الخليفة»