كتائب المحو

لم تعد مهمة الحرس تقتصر فقط على تأمين الرئيس من أعين تتلصص خلف ستائر النوافذ، أو أعين تلتمع بالضيق وراء عجلات القيادة؛ بل من احتمال تواطؤ الشرطة العادية التي تنتشر في الشوارع ليل نهار. لم يكن هناك ما يؤكد هذا الاحتمال أو ينفيه، لكن  العبارات البذيئة التي تكتب على الحوائط صارت تتكاثر بخطوط متقنة توحي باطمئنان كاتبيها. لوحات الشوارع والمنشآت تتغير في الليل إلى أخرى ساخرة، حتى “سوق الرخاء” التي أمر الرئيس ببنائها على أجمل الطرز المعمارية المتوارثة، بالقباب العالية ونوافذ الزجاج الملون، لتجمع تحت سقفها بضائع من كل خيرات البلاد، تعرضت للنهب قبل أن يفتتحها الرئيس، واستبدلت لافتتها المضيئة بلافتة أخرى بالحجم ذاته تحمل اسم “سيرك الجوع”.

واجهت القيادة تلك التحولات بتشكيلات جديدة أطلقت عليها “كتائب المحو” نُصبت خيامها إلى جوار ثكنات كتائب الشعب، تجوب الشوارع عند الفجر، تطمس الكتابات الليلة وتعيد صباغة الجدران، وترد اللافتات ولوحات الشوارع إلى أصولها، قبل أن تنتشر فرق الشعب بالأعلام المرفرفة وتصطف على جانبي الطريق، تنتظر المواكب الثمانين، الأرضية والجوية لتلوح بالأعلام وتهتف للرئيس.

ويوماً بعد يوم، كان على فرقة الفرسان  أن تطور من أدائها. ولم يستمتع حارس الأمل بمزايا الفراغ النسبي الذي توفر له بعد أن أن صار نائباً للقائد حتى وجد نفسه مضطراً، ليس فقط إلى التفكير بفص واحد من مخه، بل بالنوم بعين واحدة.

القائد الذي تكاثفت عليه آلام المفاصل ومظاهر الاكتئاب ترك الحمل عليه شيئاً فشيئاً، في وقت لم تعد فيه  مهمة القيادة تقتصر على مراقبة ما يتحرك، بل الساكن أيضاً.

كان من الضروري التأكد من أن فرق “المحو” لم تنس عبارة أو اسماً من الأسماء المدسوسة، حتى لايتسلل هذا الاسم إلى عيون الضابط، ليهمسوا به في سهراتهم، أو يتسبب في الفوضى، عندما يصدر الأمر بالتوجه إلى شارع لم يعد موجوداً بالنسبة لضباط التصق بذاكرتهم الاسم التهكمي.

ليس هنالك سوى العمل والمزيد منه. وحتى قبل أن تصدر القيادة العامة للحرس أمراً بمنع السهر نهائياً، وقبل أن تعززه بقطع الكهرباء عن الثكنات طوال الليل، نأى حارس الشجاعة عن الاختلاط بالضباط، مقتصراً على سهرات متباعدة كئيبة مع القائد.

ــــــــ

مقطع من «الحارس» ـ دار العين ـ ٢٠٠٨