لماذا لا نطبخ في الروايات؟

عزت القمحاوي 

   

  في مطعم صغير بحي «تراستفيري» الشعبي بروما، كنت بين صحبة من    الإيطاليين. أخذ مضيفيّ يفسرون لي معنى اسم المطعم الذي يحافظ حتى الآن على طرق وأدوات الطبخ التقليدية،  ويشرحون لي مكونات الأطباق التقليدية المميزة بقائمة الطعام، وعندما بدأنا بتذوق المقبلات،  سألتني الصديقة إيزابيلا كاميرا دو فيليتو إن كنت أتذكر روايات عربية تحتفي بمتعة الطعام. قفزت إلى رأسي رواية سليم بركات «هياج الأوز» ولم تسعفني الذاكرة بغيرها؛ فقضيت سهرتي مشوشًا: هل ضعفت ذاكرتي أم أن أحفاد  شهرزاد لا يشبهونها؟

   في كتاب السرد العربي الأشهر«ألف ليلة وليلة» لا دعوة للحب من دون الطعام، ولا يبدأ لقاء غرامي دون التمهيد له بالطعام الجيد، ولا تكتمل مظاهر البذخ من دون الولائم الكبرى. ولا يقتصر دور الطعام في “الليالي” على كونه مظهرًا من مظاهر الاحتفاء بالحياة، بل إنه  في أحيان كثيرة يكون رافعة سردية، تدفع بتطور الحكاية، وأحيانًا ما يأخذ الطعام دور البطولة في الحكاية.

إيزابيلا كاميرا

لغز تحله زبدية حب الرمان!

   يستعين السرد في ألف ليلة بالريح والجن وقوى السحر الشريرة والخيرة على السواء،  لتحقيق المعجزات، وفجأة يرتد إلى الواقع ويتقيد بشروطه التي تحتاج إلى الكثير من المجهود لحل اللغز، ومن بين الوسائل الواقعية لحل عقدة السرد، الطعام.

 في الليلة العشرين نتعرف على شمس الدين وشقيقه الأصغر نور اللذين، ولدا الوزير في بلاط سلطان مصر. يموت الأب، ويستوزرهما السلطان ليتناوبا وظيفة والدهما، وفاء من السلطان للأب، ولكونهما في الحسن قمرين!

ذات يوم يتحدث الشقيقان عن مستقبلهما المشترك كروح واحدة في جسدين، فيتفقان على الزواج في ليلة واحدة، ويسرحان  أبعد فيتصوران أن شمس الدين سينجب بنتًا، وينجب نور الدين ولدًا، ويقرران كذلك أنهما سيزوجان الابن والابنة، ثم ينشأ بينهما خلاف على مهر الفتاة. وإثر هذا الخلاف المثير للسخرية يغادر الأخ الأصغر نور الدين مصر غاضبًا، بلد يحمله وبلد يحطه، حتى يستقر به المقام في البصرة وزيرًا مقربًا من سلطانها، وينجب فيها الولد (آية في الجمال) يصطحبه إلى القلعة فيحبه السلطان ويأمر والده بأن يصحبه معه كل يوم، ونفهم من هذا الرضا السلطاني أن مستقبل الولد صار معروفًا وسيرث أباه، بينما يعيش أخوه في مصر وزيرًا وينجب فتاة كالمقر يسميها “ست الحسن” دون أن ينسى يومًا حسرة فراق أخيه.

 يتدخل في القصة هادم اللذات، يموت نور الدين في البصرة، ويعتكف ابنه حسن شهرين حزنًا، والسلطان الذي يرى غياب وزيره وابن وزيره قد طال دونما عذر يستبد به الغضب ضد الوزير وابنه ويأمر بتجريدهما من ممتلكاتهما والإتيان بهما، لكن رجلاً طيبًا من البلاط يحذر حسن وينصحه بالفرار ليلاً، وقبل أن يفعل ذلك يعرج على المقابر لزيارة أبيه، فيغفو على القبر، وفي السماء يجري تعارف بين عفريتة عراقية وعفريت مصري يثرثران، فينقل إليها خبر زواج ست الحسن في مصر من سائس أحدب، لأن السلطان خطبها لنفسه، فتعلل أبوها الوزير شمس الدين بالوعد الذي قطعه لأخيه الغائب، فقرر السلطان الانتقام وأمر بتزويج الفتاة من سائس قبيح وأحدب.

وإشفاقًا على حسن وست الحسن، يأخذ الجنيان المؤمنان على عاتقهما تنفيذ خطة الشقيقين، بتزويج حسن من ست الحسن. يحملان حسن من البصرة إلآ القاهرة، ويضعان لإزاحة الأحدب من جانب العروس في اللحظة الأخيرة ووضع حسن مكانه!

  تنجح الخطة، وتحمل الفتاة من ابن عمها في ليلة تنتهي قبل مطلع الفجر، إذ يحمله العفريتان  لكي يعودا به إلى حيث التقطاه من فوق مقبرة أبيه، لكن حادثًا مروريًا يقع، لأن شهابًا يعترض مسار الركب الطائر، يحرق العفريت، ويجعل العفريتة تضع حسن على أحد أبواب دمشق الشام، ويجد مأواه في دكان طباخ.

   تدور الأيام وتضع ست الحسن مولودًا تسميه “عجيب” في إشارة لعجائبية ملابسات إنجابه، وأصبحت هناك عقدة الحفيد مجهول النسب، إلى جانب عقدة الأخ الغائب. وعندما يشب الطفل ويخرج للحياة سيجد بين أقرانه من يعيره بأنه مجهول النسب.

يتخلى السرد عن العجائبية  ويرتد إلى واقعيته، فيتجهز الوزير المصري ويخرج مع ابنته «ست الحسن» وولدها ، قاصدًا اقتفاء أثر شقيقه، وابن شقيقه (حسن والد عجيب) الذي ـ لحسن الحظ ـ كان قد ترك عمامته في ليلة الزفاف الغرائبية، وكانت في بطانتها ورقة تحمل نسبه عرف فيها شمس الدين خط أخيه نور الدين. في الطريق إلى البصرة يستريح الركب في دمشق الشام، ويخرج الطفل عجيب مع خادم للنزهة، ويشتريان زبدية حب رمان شهية. وفي البصرة يلتقي شمس الدين بأرملة شقيقه التي تبكي موت زوجها وفقدان ولدها، وتنضم الأرملة إلى الركب في رحلة البحث عن «حسن». ومرة أخرى يقررون الاستراحة في دمشق كما فعلوا في رحلة الذهاب، ويعود الطفل عجيب إلى شراء حب الرمان الشهي المطهو بالعسل والمكسرات، وتتذوقه جدته العراقية، فتشهق وتسقط مغشيًا عليها، وبعد الإفاقة تقول لهم “إن كان ولدي في الدنيا فما طبخ حب الرمان إلا هو”. ليست نبية لتشم ريح ابنها، لكنها هي التي علمته أن يطبخ حب الرمان، وقد عرفت صنعتها في الزبدية التي جمعت شمل العائلة!

التفاحات الثلاث ..الكذب الإجرامي

  في قصة التفاحات الثلاث (الليلة التاسعة عشرة) لا يكتفي الطعام بدور المساعد في السرد، بل يستأثر بدور البطولة. القصة المشهورة تتعلق بأمر صادر من الخليفة هارون الرشيد إلى وزيره جعفر لحل لغز مقتل صبية، وجداها في صندوق استخرجته شبكة صياد.

   عبر سلسلة طويلة من التشويق نعرف أن قاتل الفتاة هو زوجها، ابن عمها. قتلها في لحظة غيرة.

   كانت الزوجة مريضة، واشتهت التفاح؛ فخرج ابن عمها في رحلة بحث شاقة بين البساتين وعرف أنه لن يجدها سوى في بستان أمير المؤمنين نفسه في البصرة على مسيرة يوم بليلة في الذهاب ومثلها في العودة، ويقوم بالرحلة ويعود بثلاث تفاحات اشتراها من الحارس (الذي كان يجب أن يحتفظ بها للخليفة) بصرف النظر عن الوشاية بالحارس؛ فالرحلة لا تدل على مدى حب الزوج لابنة عمه، بل تؤسس لعقدة القصة، وتجعل الشك في سلوك المريضة مقبولاً. لم يكن الوقت موسمًا للتفاح، وليس غير بستان الخليفة ما يمكن أن تتحقق فيه المعجزة، هكذا صار الزوج متيقنًا من عدم وجود تفاح في المدينة إلا الثلاث التي حملها، وعندما أحس بأن زوجته بدأت بالتعافي، عاد إلى عمله، وفوجيء بعبد يحمل تفاحة يمر من أمام دكانه، فسأله: من أين لك؟ أجابه: من عشيقتي، قالت إن زوجها الديوث جلب لها ثلاثًا من بستان الخليفة بالبصرة، دفع  فيها ثلاثة دنانير!

  ينطلق الشاب إلى بيته فائر الدم، ويذبح زوجته ويقطعها ويضعها في الصندوق، ويعرف الخليفة القصة فيتسامح مع القاتل الغيور، ويأمر بالبحث عن العبد الذي سيعترف بأنه خطف التفاحة من يد طفل، والطفل هو الذي حكى قصة حصول والده على التفاحات!

بيت العز

 بعيدًا عن الوظيفة المباشرة في تطوير السرد في “الليالي” وبعيدًا عن التعويض الكاذب للمحرومين من المستمعين هناك العديد من الوظائف للطعام خلال الألف ليلة من القص المحموم، تساهم فخامة السماط في رسم الشخصية وصورة العصر المروي عنه. لن تكون الجواري والخمور والموسيقى كافية لصنع مجتمع البذخ إلا لو اقترنت بوفرة الطعام، وكل هذه الأشياء تساهم في التبعيد؛ أي في خلق المسافة الكافية بين المروي عنه والمروي عليه، والتبعيد هو أحد شروط الإقناع بالأسطورة. هذا لا يعني أن البذخ لم يكن موجودًا، أو أن الطعام لم يكن جزءًا من النص الثقافي العربي. كتب الإيروتيكية مثل «نزهة الألباب» و«رجوع الشيخ» لا يستغني أحدها عن فصل للأغذية المقوية للقدرة على الباه، بينما تركت لنا الحقبة العباسية سيرة البذخ  في عديد من الكتب المتخصصة في الطعام والشراب وآدابهما، مثل كتاب «أدب النديم» لأبي الفتح محمود بن الحسين كشاجم. ويذكر ابن النديم في الفهرست عشرات العناوين لكتب بعضها مكرس للطبخ وحده، وبعضها يتناوله ضمن موضوعات أخرى.

وقد تكفلت قنوات التليفزيون المتخصصة في وقتنا هذا بدور الكتب المكرسة للطبخ في الثقافة العربية القديمة، بينما لا يبدو السرد العربي شديد الوفاء لتراث العرب الحكائي فيما يخص الطعام. لا تستطيع رواية أن تتجنب الإشارة إلى الطعام ولو مرة واحدة، ليس لذاته، بل لكونه أحد انشغالات الشخصية في لحظة محددة، لكن هناك روايات تحتفي بالطعام من باب المتعة، وسنتعب كثيرًا قبل أن نعثر على عمل يقوم فيه الطعام بوظيفة في تطوير السرد أو رسم أبعاد الشخصية.

الدنيا مطبخ صغير

 تبدو «هياج الأوز» فريدة في اعتمادها الطبخ مكونًا سرديًا رئيسيًا. تحكي الرواية عن مجموعة من الكرديات المهاجرات إلى السويد، يجتمعن كل سبت في بيت إحداهن بالتناوب، يضعن كل أشواقهن للحياة والحب في الطبخ وتناول الطعام والشراب والحلم بأشواق الجسد الأخرى، عزيزة المنال. الطريف أن هذه الرواية تبدو فريدة في مسيرة صاحبها الشاعر والروائي، من حيث اعتمادها لغة سهلة تناسب موضوعها، بعكس أعماله الأخرى كـ “الريش” مثلاً التي تبدو إبداعًا داخل اللغة، حتى لتصعب رؤية الواقع الذي يرزح تحت ثقل البلاغة.

   وفي رواية عبدالحكيم قاسم «أيام الإنسان السبعة» نرى التأني في وصف «يوم الخبيز» قبل التوجه إلى مدينة طنطا لحضور احتفال «السيد البدوي». البهجة الاحتفالية التي تعمل بها نساء البيت لإعداد طعامهم أثناء الاحتفال بمولد ذلك امتصوف يكشف عن الانتماء الصوفي.

نجيب محفوظ

ويبدو الطعام عنصرًا سرديًا لدى نجيب محفوظ. في الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) يساهم الطبخ وإعداد المائدة في إكمال صورة أمينة كزوجة منسحقة، ويكشف ملامح الطبقية في البيت بين الأب والذكور من جهة والأم والإناث من جهة أخرى،  في الروايتين الأولى والثانية، وفي الرواية الثالثة، يتوازى الانعتاق النسبي للست أمينة مع تخفيف طقوس المائدة، كما يساهم إقلاع أحمد عبدالجواد عن الشراب وزهده  في الطعام في الإشارة إلى توغله في العمر.

  في روايات محمد البساطي، لا يمكن أن نرى الطعام، بل الشوق إليه. في روايته القصيرة «جوع» يعز الرغيف الحاف وفص الملح على زغلول وزوجته سكينة، وعندما يسترقان النظر إلى أقفاص الطيور والفاكهة التي تخرج من «البيت الكبير» إلى السيارة التي ستحملها إلى بيوت الأبناء في المدينة، يحكي زغلول لامرأته عن الأفاعيل التي يقولون إن تناول  الحمام يفعلها بجسم الرجل، وتحاول المرأة المستكفية أن تجعله راضيًا بحياته؛ فتمتدح فحولته: “انت عمرك احتجت حمام ولا غيره؟” وتنفرد رواية «بيوت وراء الأشجار» بمشهد عز نظيره في الخيال، إذ يتوجه شيخ إلى جارته العجوز ليستعير طاقم أسنانها، ليتمكن من أكل اللحم في حفل زفاف.

 يرى الفقراء اللحم في الأعياد والزفاف والعزاء فحسب، وإذا كان البساطي قد أرسل بفقيره إلى عرس؛ فقد اختار خيري شلبي أن يصف «صواني العشاء» في روايته القصيرة «فرعان من الصبار» حيث يجب على الأقارب طبخ اللحم حتى لو استدانوا لإطعام أهل الميت والمعزين الغرباء. إنه كرم الضرورة، الكرم حتى بغير الموجود، وهو ملمح نراه لدى سارد آخر، هو سعيد الكفراوي المستغني بالقصة عن غيرها، إذ نجد لديه في عشرات القصص ذلك النوع من المؤاكلة الريفية، واللبن عنده سيد الطعام؛ فهو علامة الستر في البيت الريفي.

هاني الراهب

السمك للغواية وشيخ المحشي للحب!

 يرتبط البحر والسمك بالسحر في ألف ليلة، وكذلك في رواية حنا مينة “الياطر”. الصياد زكريا المرسلي، وهو ضرب من “زوربا” كزنتزاكيس و”سنتياجو” هيمنجواي يقايض أحشاء الحوت مع صاحب الخمارة، ثم يجد من يوغر صدره حول الماس والذهب الذي وجده زخرياديس في تلك الأحشاء فيبقر بطنه ويهج إلى الغابة، حيث يلتقي بالراعية التركمانية شكيبة. في اليوم الأول يمنحها سمكاته نيئة لتحملها إلى أطفالها، بغية اصطيادها، لأن صيادًا مثله كان قد نصحه: “لابد أن تضع شيئًا في سروال المرأة كي تحله” ولكنه في اليوم الثاني يعد حفل شواء من أجلهما معًا، يتخلى فيه عن ذئبيته، وتتحول رغبة الاصطياد إلى نوع من التضامن الشجي بينهما، وتصبح متعة المؤاكلة، متعة الائتناس أحدهما بالآخر فعل حب كامل وجميل، ويصبح الاضطجاع معًا فيما بعد محض إشارة إلى الألفة والإيلاف.

في رواية “المهزومون” لهاني الراهب، من تطبخ هي المرأة لا الرجل. دأبت «ثريا» على إهداء العصعص لجارها بشر، و العصعص هو آخر العمود الفقري في الذبيحة (العكاوي في التسمية المصرية) لا يشير الروائي إلى السمعة الإيروتيكية الحسنة للعصعص، فالزوجة الصغيرة التي تمقت زوجها الحلاق الكهل، تتعلق بالطالب الجامعي تعلقًا رومانسيًا،  وإهدائه طبقًا يحبه هو  الطريقة الآمنة للتعبير عن غرامها. وعندما زارته في غرفته للمرة الأولى، طلبت منه أن يخرج فورًا لشراء المكونات اللازمة لتطبخ له شيخ المحشي. وستمضي علاقتهما على هذا النحو وقتًا طويلاً، تجترح ثريا المغامرة بعد المغامرة، كي تضع حبها في طبخة، أو في ترتيب غرفة الأعزب.

لم تخطر لثريا الفكرة الشعبية الشائعة “الطريق إلى قلب الرجل معدته” ولم يحملها على الطبخ للحبيب غير المخلص سوى الحب. والحب هو ما يسمونه بـ “النَفَس” في الطعام، وهو المكون الذي تنسى كتب الطبخ تسجيله ضمن مكونات طبخاتها المعقدة.

 وسواء احتفت الرواية بالطبخ أو فاتها ذلك؛ فالحب عنصر ضروري للكتابة كما للطبخ. بسهولة، يمكن لمدمني القراءة  أن يميزوا بين كتاب إنجازه بحب، مهما كانت عثراته،  وبين كتاب حسن المقادير، وتنقصه الروح، لأنه لم يُكتب بحب.

ــــــــــ

نشر المقال في العدد ٥٥ من مجلة الجسرة الثقافية.