أن ننام لنحكي

اليوم أيضًا استيقظت على كتابة مجهدة، كنت أكتبها طوال اليوم، لكنها تبخرت تمامًا، فعدت إلى هذا الفصل من كتاب الغواية:

يبدو أنني مجبر على حمل بيت أحلامي بنفسي. 

أنت مثقلة بأماكن أحلامك، ولا مكان عندك لمزيد.

أتمنى لو كنت بحضنك الأن، لتحكي لي الحلم الذي دونته في رسالتك. تتذكرين بشكل مدهش، سأحتفظ لك بالرسالة، إنها نص جاهز. لا تترددي. أنا  للأسف، لا أستطيع حتى الآن تذكر أحلامي، على الرغم من أنني  بدأت الكتابة في الحلم مبكراً جداً، ربما مع بداية الحلم بالكتابة.

كثيراً ما شاغلت نومي كتابة الأحلام اللعوب، ولكنها تمضي دائماً بعد أن تترك ندبة في القلب وتزرع الوقيعة بيني وبين كتابتي في اليقظة، فهي لن تبلغ أبداً مبلغ كتابة الأحلام.

لا أستطيع أن أتذكر أحلامي بالدقة التي كتبت بها حلمك، الغريب أنني أكتب داخل الحلم وأعي تماماً أنني أحلم. وأكون متأكداً من أنني كتبت ما لم يكتب من قبل، وأحاول مراجعة الحلم  معجباً بنص عمري الذي أنجزته في الظلام. أعي أيضاً أنني أنسى الأحلام، فأبدأ في مراجعة النص مرة واثنتين.

ولكنني في كل مرة  أصحو فتتبخر الكتابة،  كصورة على شريط حساس تعرض للضوء قبل تظهيره؛ لا أثر للمعمار الذي كان مكتملا وواضحاً منذ لحظات. والسعادة التي قذفت بي إلى خارج نومي تتبدد، ولا يبقى بعدها سوى الطعم المالح للحسرة، والإحساس بالخديعة الذي لا تلطفه إلا نية التربص بحلم جديد.

لا أزعم أن شيطاناً يترصدني أو ملاكاً عجولاً يلقي بالوحي من بعيد من دون أن يتأكد إن كنت سأتمكن من التقاطه، المسألة أنني أدخل إلى النوم بمشاغل الكتابة، هكذا ببساطة؛ فالحاجة إلى الكتابة، هي إحدى حاجاتنا الطبيعية كالجوع والعطش، التي يعتبرها فرويد من بين دوافع الأحلام.

ولم يكن سيجموند فرويد أول من حاول تبديد الهالة السحرية عن الأحلام. قبله بثلاثة وعشرين قرناً انتبه سقراط إلى ارتباط الحلم بالنفس الإنسانية، لكن كتاب فرويد  “تفسير الأحلام” سيظل العلامة الأبرز على طريق هتك سر الحلم، ربما بفضل حسن الطالع الذي حظي به هذا الكتاب، وقد ولد على عتبة القرن العشرين في توقيت جنت فيه البشرية من فضائل العلم أكثر مما جنت من ويلاته، وتفتحت شهوتها إلى السيطرة على أقدارها.

ورغم الرواج الذي لقيته نظرية فرويد فإنه لم يتمكن،  ولا أي من تلاميذه، إلى اليوم من إكمال الجدار العازل بين الحلم والقوى فوق البشرية. تحصنت قوة المقاومة العنيدة والمراوغة في الأدب. وواصلت الأحلام تجليها في النصوص، كحيلة فنية لطي الزمان أوالمكان، تأتي عادة في شكل  نبوءة من الآلهة أوالجن، تحبس أنفاس القارئ وتزمِّله بالنص حتى النهاية.

الحكايات القديمة التي تتخذ من لحظات الاستعداد للنوم وقتا لحكيها، لا يمكن أن نستقبل مغامرات أبطالها إلا بوصفها أحلاماً، لكن الآلهة كانت تترفع عن الاحتماء بظلام النوم لكي تزورالبشر، أو أن الراوي كان يستحي أن يفرض عليها ذلك التخفي، فجعلها تمضي جهاراً.

في الأساطير المصرية كان التاسوع الإلهي والحتحورات السبع يتجولون لإقرار العدل وإنقاذ الموروط. وفي ملحمة الرافدين نزل جلجامش يبحث بنفسه عن عشبة الخلود، وكانت آلهة الإغريق تعقد محاكمها على أعلى منصة عرفها تاريخ القضاء: قمة الأولمب.

أما الأنبياء فقد تلقوا ـ إلى جانب الوحي ـ  امتحان إخلاصهم ونبوءات المستقبل في صورة حلم: حلم إبراهيم بذبح إسماعيل، وحلم يوسف بسجود ذويه وحلمي صاحبيه في السجن؛ ذلك الذي يعصر خمرا والآخر الذي يحمل خبزاً تأكل الطير منه.

ويمكننا أن نقرأ “ألف ليلة وليلة”  ابتداء من القصة الإطار وانتهاء بالليلة الأخيرة بوصفها سلسلة من الأحلام تلبي حاجات المحرومين: للمسجونين حلم الحرية والانتقال من الصين إلى مصر ومن بغداد إلى دمشق في غمضة عين! وللجائعين حلم الطعام بكمياته الأسطورية. وللشبقين  حلم الجنس.

ولكل المقهورين، حلم القصاص، برؤية ملوكهم مشردين مهانين بخيانات زوجاتهم.

وبعيدا عن هذا المجاز الكلي فإن الحلم يظهر بالليالي صراحة كحيلة فنية تتغلب على صعوبات الزمان والمكان، وتؤسس لنمو القصة بالتعاون مع قوى الجن التي تنهض بالعبء الأكبر في توليد أسفار القص  بإنجيل المتعة هذا.

في حكاية بدر البدور بنت الملك الغيور وقمر الزمان، يمتزج جهد الجن بفعل المنام امتزاجا،ً قلما نجده في إبداع أي من المتأخرين، ممن اتخذوا الحلم صناعة، من شكسبير إلى نجيب محفوظ.

ولا يبدو أن مؤامرة فرويد قد تمكنت من نزع سحرية الحلم، الذي يتواتر في الأعمال الفنية. لكن أحداً من الذين برعوا في كتابة الأحلام لا يقدم شروحاً حول إبداعه يوضح فيها أي الأحلام حلم به وأيها تم تحضيره في معامل اليقظة.

لكنك ستحكي لي، ولن أقصص رؤياك على أحد، ارسلي إلي بأحلام جديدة.

ــــــــــ

الرسالة الثالثة، من «كتاب الغواية»