هكذا ودعت العش غبطة النسيان

قرون عاشها أهل العشّ بغبطة النسيان، قبل أن تفاجئهم عاصفة من الغبار، انحسرت عن سبعة رجال فوق ظهور الخيل يعلّقون البنادق في أكتافهم، ويحملون دفاتر كبيرة. توقّفوا في حيرة من تنظيم القرية التي بلا ساحة رئيسيّة، وتبدو كلّ نقطة فيها مركزًا. وليس بها حارات مسدودة النهايات، بل شوارع متساوية يفضي أحدها إلى الآخر، وتفضي كلّها إلى الحقول. وليس بها بناء مميّز يمكن أن يشير إلى أبرز سكّانها؛ حيث كلّ الدور من طابق واحد من اللبن بلا تمايز في الحجم أو الشكل.

سأل الغرباء عن كبير القرية بلغة مبهمة أكملوها بالإشارة. ولم يكن لدى من تحلّقوا حولهم أدنى فكرة عمّن يجب أن يتكلّم باسمهم. قالوا:

ـ كلّنا.

كانوا حتى تلك اللحظة مخلصين لحالة المساواة الكاملة التي وضعها أجدادهم، وقد شملت كلّ شيء: أشكال الدور وأحجامها، مساحات الحقول، وتتابع الأجيال في العائلات. كان الأجداد المؤسّسون ينتمون إلى قرى مختلفة التقت بهم طرق الهرب من الضرائب الباهظة عند مستنقع، شرعوا في تجفيفه وتأسيس قريتهم على أرضه السبخة قليلة الرجاء. ولكي يضمنوا عدم تخلّي أحدهم عن الآخرين والعودة إلى قريته، تعاهدوا على نسيان كلّ ما تركوه وراءهم من ذكريات، حتى الأسماء القديمة استبدلوا بها أسماء من حياتهم في هذه البقعة العنيدة.

بدأوا باسم قريتهم، ثم جاءت أسماؤهم؛ من نجح في استنبات القمح للمرّة الأولى سمّوه القمحاوي، ومن غلّت أرضه أعلى معدّل فول صار الفولي، ومن أنجبت جاموسته أوّل عجل ذكر حملت عائلته لقب الفحل، ومن اعتاد لحس إصبعه بعد الأكل سمّوه اللاحس، ومن عضّ أذن جمله الحرون سُمّي العضّاض، ومن سار أمام حماره بدلاً من أن يركبه سُمّي الجحش، ومن اختار صناعة الحصير سمّوه الحُصَري.

بعد قرون نشأت قرى جديدة بالقرب من العشّ، لكنّها ظلّت بغير حاجة إلى الاتّصال بغيرها، ولم يكن لدى أحدهم تصوّر عمّا يمكن أن يفعله بزيادة مفاجئة في محصول الذرة أو القمح، فكان يبقيه حتى يطلبه جار لم تغلّ أرضه كما يجب، وإذا فاجأته جاموسة أو بقرة بعجلين توأم، ينذر أحدهما لوليمة.

ظلّت منسية، حتى جاء من أوروبا مغامر جديد، حلم بوضع مصر درّة على تاجه. وسرعان ما فسّر حلمه على هيئة سفن تحمل مدافع لم تخطر على بال الحكّام العبيد المهرة في القتال المتلاحم بالسيوف. ولم يعن اندحار المماليك سقوط البلاد ثمرة ناضجة في حجر نابليون الذي حمل علماءه معه للإسراع في فحص الجوهرة. أبلى المصريّون حسنًا في الدفاع عن بلادهم. وعندما رأى السلطان العثماني كيف تمكّنوا من إعادة الإمبراطور مكتئبًا إلى باريس، شاركهم ازدراءهم للمماليك، وحقّق مطلبهم بتعيين الملازم الألباني محمّد علي واليًا.

ولم يتصوّر أحد أنّ انتفاضة عمر مكرم، التي نجحت في تحرير مصر من حكم العبيد، هي التي ستؤدّي إلى احتلال العشّ.

بعد أن ذبح الضابط الطموح منافسيه الخطرين في وليمة القلعة، وقف أمام خريطة مفصّلة لمصر والبلاد المجاورة؛ ليقرّر أيّها سيحتلّ أوّلاً. مرّر يده على منابع النيل، ثم تطلّع شرقًا إلى الأناضول وغربًا إلى رمال ليبيا، ورسم دائرة طوّقت مصر مع برقة والسودان والحجاز والشام، وتحرّكت شفتاه بابتسامة غبطة، ثم أطرق طويلاً، منتبهًا إلى نقطة متناهية الصغر بلون مراوغ، بين خضرة الوادي وصفرة الصحراء. ضغط إصبعه؛ فلم يشعر بالبلل. ولم يغص الإصبع في الرخاوة المفترضة لطين مستنقع لم يجفّ. هزّ رأسه دهشة من تطلّعه إلى غزو دول أخرى، بينما توجد جيوب داخل مصر نفسها لا يعرف عنها شيئًا، ومن المحتمل أن يلجأ إليها المماليك الفارّون، خاصّة أنّ الأكثر مهارة هم الذين تمكّنوا من القفز بأحصنتهم من فوق أسوار القلعة.

أمر الملازم، الذي حمل لقب باشا فيما بعد، بتجهيز الحملة الأصغر من كلّ الحملات التي سيرأسها ابنه إبراهيم بعد ذلك إلى الحجاز والشام والسودان، لكنّها كانت كافية لتغيير الحياة في العشّ إلى الأبد.

أمضى الغرباء أسابيع طويلة. متنعّمين بضيافة كريمة. أحصوا البشر والبهائم ومساحات الأرض، واطّلعوا على مخزون كلّ بيت من الغلال في الصوامع، والجبن القديم في الجرار المدفونة وسط الحطب على الأسطح، والسمن ودهن الذبائح في الخوابي والجرار المعلّقة في السقف بعيدًا عن الحشرات. لم يلاحظ رجال الحملة الإحصائيّة أنّ أيًّا ممّن استجوبوهم كان يخفي شيئًا من أملاكه أو يضلّلهم عند الإدلاء بأيٍّ من البيانات. لكنّ المشكلة أنّهم كانوا يتلقّون البيانات أكثر من مرّة، لأنّهم يخطئون الاتّجاهات، ويدخلون الشارع الواحد بعد لحظات من مغادرته؛ فيجيبهم السكّان من دون أن يتذمّروا من إعادة إملاء بيانات أدلوا بها من قبل. كان عليهم أن يقضوا الليالي على ضوء مصباح زيت شحيح، يحذفون التكرار الذي خلقه تشابه الشوارع وتشابك شجرات العائلات. وعندما انتهوا من مهمّتهم رحلوا في حالة من التشوّش، حتى إنّهم توقّفوا على الطريق أكثر من مرّة استجابة لنداءات، تلاحقهم لاسترجاع أشياء نسوها.

كاد النسيان يطوي الزيارة، لكنّ عاصفة جديدة أقبلت، وأسفرت عن تركيٍّ آخر على حصانه يكبس طربوشه الأحمر حتى أذنيه، فيبدو بلغده المترجرج مثل ديك رومي، يحرسه سبعة من الجنود المسلّحين فوق سبعة من الحمير.

أبرز متين آغا مرسوم تعيينه عمدة للعشّ، ومخطّطًا دقيقًا للقرية، عليه علامات بالألوان. أشار إلى الدائرة الحمراء في الوسط، وأمر أصحاب البيوت الواقعة داخل نطاقها بإخلاء بيوتهم، لكي تُبنى سراي العمدة حتى يكون على مسافة متساوية من الجميع. وقال إنّ التعويض عن دورهم سيأتيهم في بداية السنة الجديدة. ثم أشار إلى نجوم رُسمت في نهايات بعض الشوارع، مشدّدًا على ضرورة إغلاقها لتتحوّل إلى حارات؛ حيث يجب تقليل عدد المداخل، حتى لا تكون العشّ مباحة أمام اللصوص.

لم يعرفوا حجم التعويضات التي سينتظرونها جيلاً بعد جيل، إلى يوم القيامة، لكنّهم أطاعوا الأمر حيث لم يكن الرفض مطروقًا بعد. لم يعرفوا، حتى تلك اللحظة، اختلاف المصالح بين من يطلب ومن يلبّي الطلب.

بدأوا في عجن الطين بالتبن لصبّ قوالب الطوب، ثم شرعوا في بناء بيوت بديلة خارج القرية لأصحاب البيوت المُزالة. كما بنوا حوائط تسدّ الشوارع في مواضع النجوم.

وبدأت عربات تجرّها البغال تتدفّق على العشّ، محمّلة بالأحجار البيضاء وموادّ البناء الأخرى. وشرع البنّاؤون في بناء السراي وأحاطوها بسور، زُرعت داخله شتلات المانجو والبرتقال والليمون التي لم يرها أهل العشّ من قبل، مع ورد ونخيل للزينة. وفي مواجهة السراي بُنيت من الطوب اللبن دار لسكن الجنود، وتخزين السلاح، بغرفة مفتوحة على الشارع، يسهرون فيها لمراقبة أسوار السراي.

وعندما اكتمل كلّ شيء، جاءت العربات تحمل الأثاث، يتقدّمها الجنود السبعة الذين خرجوا لاستقبال الركب خارج العشّ، بينما كان العمدة في الكاريتة مع زوجته وولديه وابنته. توقّفت العربات وهرولت أسرة متين أفندي أوغلو إلى داخل السراي في احتياط أمني، لم يفهمه الذين اصطفّوا لرؤية عائلة بيضاء كاللعب. لم يقترب أحد من السراي لمدّة طويلة، ولم يرهم أحد خارج السور، وكان كلّ ما يشغل أهل العشّ هو معرفة إن كانوا يستطيعون الحديث، وبأيّة لغة يتفاهمون. وحتى عندما بدأت بعض النساء دخول السراي للمساعدة في التنظيف، كُنّ يندهشن من تلك الشقشقات الغريبة التي تشبه التعاويذ السحريّة وتتبادلها الأسرة، ويتعجّبن كيف يكون لتلك الطلاسم الصوتيّة معنى.

واصل الجنود حراسة السراي عدّة أشهر، ولم يرحلوا إلّا بعد تدريب الخفراء من أبناء العشّ على استخدام السلاح وتنظيفه وصيانته. راعى متين أفندي أوغلو في اختياره للخفراء أن يكون كلّ واحد من عائلة؛ بحيث يضمن ولاء أكبر عدد ممكن من العائلات. وللمرّة الأولى أصبح بين أبناء العشّ من يعملون شيئًا آخر غير فلاحة الأرض، ويتقاضون نقودًا مقابل سهر لا يعرفون الحكمة من ورائه، لكنّه حقّق تسلية كبيرة لعائلاتهم؛ فكانوا يشبعون فضولهم برؤية أبنائهم الخفراء مستغرقين في لعبة فكّ وتجميع أجزاء البنادق التي لم تعرف مواسيرها الإحماء في ذلك الجيل، ولا في الجيل الذي تلاه.

كانت أوامر متين أفندي، ومن بعده أوامر ابنه أورهان، تُنفّذ من تلقاء نفسها. ولم يعرف الرفض طريقه إلى قاموس العشّيّين إلّا عندما أثقل العمدة الحفيد عصمت عليهم بالضرائب والأوامر المذلّة.

“““`

مقطع من الفصل الثاني من «بيت الديب»