أن تحب القصص دون أن ترى الظلال

الكيت كات ـ محمود عبدالعزيز يحكي ما لا يراه

“ما نفسكش، كده يعني، تروح سيما؟” يسأل الشيخ حسني صديقه الشيخ عبيد الذي يرد مندهشًا: “سيما؟!”.  لكن دهشة الصديق لم تثن الشيح حسني؛ إذ تنتقل الكاميرا مباشرة إلى مشهد الكفيفين داخل صالة السينما.

 مغامرة أخرى للأعمى الجسور، في فيلم داود عبدالسيد “الكيت كات” لا تقل عن مغامرة قيادة الدراجة النارية أو التجديف في مركب بعرض النيل. المشهد مدجج بالدلالات. الشيخ حسني يرى الظلال المتحركة على الشاشة، والمشهد المعروض لا يتضمن حوارًا، يُسهل المهمة؛ فكان عليه أن يخترع القصة صورة وصوتًا، وبينما تعرض الشاشة مشهدًا لشاب يطارد حمارًا أو حصانًا يصف الشيخ حسني لصديقه مشاجرة في شارع تشهدها من الطابق الأعلى فتاة شديدة الجمال. همْس الشيخ حسني في أذن صديقه شوَّش على المبصرين المحيطين به، وسط دهشتهم من اختراعه لمشهد مغاير لما تراه عيونهم.

المشاهد المخترعة ليست مجرد قصة يواصل من خلالها الشيخ ادعاء الإبصار وخداع الكفيف الآخر؛ فقد روى ما بداخله هو، أو ما يتوافق مع مزاجه: الحد الأقصى من الإثارة متمثلة في مشاجرة عنيفة تتابعها امرأة جميلة، وبعبارته هو: “قمر، لهطة قشطة”.

***

 العمى ليس السبب الوحيد الذي يجعل وجود الراوي ضرورة في صالة السينما. الأمية سبب آخر.

الجميلة التي تحتضن كتاباتي بحنان أم روت لي أن أختها الكبرى كانت تصطحب أمها وخالاتها، في ستينيات القرن الماضي إلى السينما ـ التي اندثرت الآن ـ في مدينتها السورية الصغيرة. تقول: «كانت غالبية الأفلام هندية، وكانت أختي تجلس في المنتصف وتقوم بالمهمة السامية؛ تلاحق سطور الترجمة على الشاشة وتقرأها على الشقيقات اللائي ينخرطن في البكاء. كن يحملن المناشف من البيت، قبل أن تنتشر المحارم الورقية».

في أجواء بلادنا الحارة، كانت صالات السينما أسبق الأماكن العامة إلى استخدام نعمة مكيف الهواء، ما جعلها مكانًا مثاليًا لقيلولة ممتعة، كذلك يجد العشاق في عتمتها ملاذًا آمنًا لبعض أشواق الجسد، ويتخذها الباحثون عن مغامرة عابرة مكانًا مثاليًا للاصطياد.  وكل هؤلاء يدخلون السينما ويخرجون دون اكتراث للأفلام، بينما يعوض بعض الرواد إحباطهم من الفيلم بالبحث عن قصص تحدث حولهم أكثر إمتاعًا مما تعرضه الشاشة.

***

نحتاج إلى القليل من شجاعة الاعتراف ليكتشف كل منا أنه لم يحرم نفسه من متعة التلصص في الصالة المعتمة، ولو لمرة واحدة في حياته، حيث لا يمكن الفرار من إغراء تتبع الهمسات وتسللات الأصابع في عتمة القاعة، ومحاولة بناء قصص كل امرأة ورجل بالجوار، أو الاستغراق في تسلية فرز علاقات العشق من علاقات الزواج، من خلال درجات الولع، أو رصد توازنات القوة في كل علاقة.

ومهما اختلفت دوافع الذهاب إلى السينما، فإن كل روادها يخرجون محملين بالقصص، ويريدون جمهورًا آخر يختبرون دهشتهم فيه. حتى من يدخلون بقصد النوم، لا يستطيعون مقاومة رغبتهم في الحكي، ويشرعون في إعادة اختراع الفيلم استنادًا إلى اللقطات التي اقتنصوها في لحظات الصحو بين إغفاءة وأخرى. في الأوساط الفقيرة تتحول إعادة حكي وقائع الفيلم إلى ضرورة حياتية وفنية. الكثير من الفتية في العالم الثالث جربوا هذا الاحتيال على الفقر. يتشاركون في ثمن بطاقة واحدة، يدخل بها أحدهم الفيلم، ويعيد روايته للآخرين.

وقد رأيت بنفسي في بداية الألفية الثالثة صبية من أبناء بوابي العمارات، يتعلقون بثغرة صغيرة في بناء قاعة سينما داخل الحديقة الدولية بمدينة نصر، يتلصصون على هذيان الحائط* بينما يجلس أحدهم داخل الصالة بالقرب من الثغرة ينقل إليهم الحوار على طريقة المبَّلِغ في الصلاة.

ولم تقتصر الرغبة في إعادة رواية الأفلام على مبادرات فردية لعشاق السينما؛ فقد وجد الراديو في إذاعة الأفلام وسيلة للاحتفاظ بجمهوره. برنامج «من الشاشة إلى الميكروفون» كان من أهم برامج إذاعة البرنامج العام المصرية في سبعينيات القرن الماضي.  كان يبث مسامع من الأفلام الجديدة، ويستضيف أحد أبطال الفيلم لتلخيص القصة، ثم تطور الأمر وأصبح هناك بث شبه كامل للأفلام، يقوم فيه الراوي الإذاعي بوصف الصورة، في لحظات صمت الحوار، ويقدم اسم البطل متبوعًا باسم الممثل أو العكس للتذكير «الآن يدخل أحمد، عبد الحليم حافظ…».

جان بول سارتر ـ الهذيان اللذيذ

أقلعت الإذاعة عن بث الأفلام في عصر توحش وتسيد الصور، لكن شبكة الإنترنت أعادت إحياء هذه الذكريات ببث تسجيلات برامج السينما القديمة عبر موقعي «يوتيوب» و«ساوند كلاود» بينما التقط التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير ظاهرة الراوي في المجتمعات الفقيرة وجعلها ثيمة روايته “راوية الأفلام” التي ترجمها صالح علماني.

اختبر الأب المولع بالسينما قدرات أبنائه واحدًا فواحدًا على رواية الأفلام، وفي النهاية وجد أن الصغيرة “ماريا مرغريتا” هي الأكثر تميزًا بما تملك من قدرة آسرة على سرد ما تتذكره، وسرعة في تدارك خيانات ذاكرتها بالتأليف الفوري الذي ينقذ الحكاية. اختار الأب الصبية لتكون مندوبًا دائما للأسرة في صالة السينما الوحيدة بالمدينة، كلما وصل فيلم جديد يجمعون بمشقة قطع النقود التي تكفي ثمن بطاقة دخولها. مع الوقت اتسع نطاق جمهورها ليضم الجيران، ثم الكثير من سكان القرية، وبدأ فرض رسم دخول زهيد على المشاهدين الذين يتوافد بعضهم إلى بيت الراوية لأنهم لا يملكون ثمن بطاقة السينما، بينما يقصدها البعض الآخر لأنهم وجدوا أن رواية ماريا مرغريتا أمتع من النسخ الأصلية للأفلام!

ليس غريبًا أن تتفوق التشيلية الصغيرة في روايتها على الفيلم الأصلي؛ فالراوي المحلي عليم بجمهوره الضيق، يعرف ما يثير اهتمامه بأكثر مما يعرف صُنّاع الفيلم البعيدين. وهناك طرفة عراقية حول شخص أخذه الحماس في عرض أحداث الفيلم حتى أثار فضول صديقه لرؤية الفيلم. ذهبا معًا في اليوم التالي، وعندما استشعر خيبة أمل الصديق قال له: “والله البارحة وقع  به دك أكتر من هسة”. لو اكتفى الصديق برواية صديقه للفيلم، لاحتفظ بدهشته ونقوده.

وجود راو من لحم ودم لا يحمي الجمهور من إحباطات الفيلم السيء فحسب، بل ومن إحباط هشاشة الظلال المتحركة وزوالها السريع. يتذكر القاص العراقي إبراهيم أحمد السينما المتجولة التي كانت تجوب العراق بمبادرة من “النقطة الرابعة ” في مشروع مارشال وتعرض أفلامها على الحوائط في الساحات: “كنا نعود في الصباح، نتلمس الجدار في محاولة يائسة لاقتفاء أثر الخيل التي كانت تركض عليه في المساء”. المشاهد عبر وسيط، لن يكون عرضة للإحباط الذي يتعرض له من يقتفون أثر الهذيان الليلي للحائط بعد أن بددته الشمس.

ــــــــــــ

  • هذيان الحائط، والضلال اللذيذ، كنايتان عن السينما استعرتهما من جان بول سارتر في سيرة طفولته «الكلمات» ترجمة د. خليل صابات.