حقًا، ومجددًا، ماذا في السفر؟



لماذا نغادر أماكن عيشنا ونضحي بعادلتنا التي صارت لصيقة بنا مع السن لكي نلاقي المجهول في رحلة لن نجد فيها طعم القهوة التي اعتدنا، ولا شكل إفطارنا المعتاد، ولا موعد ومكان نومنا؟
ليس هذا التخلي وحده هو ما نخسره في السفر الذي لا يكف عن مراكمة الخبرات السيئة.
إجراءات الأمن المتزايدة التي أصبحت تجرد المسافر حتى من حذائه، زحام كنترول الجوازات. والنظرة الجامدة لرضوان الجالس في شباكه مثل الآلهة المخيفة الحارسة لبوابات الخلود الفرعونية، يتأمل باسبورات المعروضين أمامه قبل أن يرفع ختم الدخول ويهوي به على باسبور من خفت موازينه. انتظار الحقيبة التي اختصرت فيها بيتك كطارئ، القلق من مواعيد القطارات والحافلات؟
يبدو أن رحلة الإنسان كلما طالت مع الألم والخوف ومجابهة الصعوبات، تجعله فاقد القدرة على التخلي عن هذه الخبرات المؤلمة، لكنه يطلبها في صورة أنعم. والسفر يوفر هذا، مع بعض المتع الطفولية.
هل نسافر لنلتقي بطفولتنا بمتعها وآلامها ومخاوفها وحيرتها معًا؟
صناع أدوات الحمامات يتكفلون وحدهم بتوفير نصف الحيرة الطفولية ودهشة الاكتشاف في السفر. مهما نزلت بفنادق، فدائما هناك زر لصنبور لم تعرفه من قبل، دائما تخشى أن تضغط على ما يفتح بالدوران أو تبرم ما يفتح بالضغط، كيف ستخلط البارد بالساخن، كيف تختار الرشاش الصحيح.
كيف لا توجد حتى الآن جمعية لرفق بنزلاء الفنادق تحد من العدد اللانهائي لأشكال الصنابير ورشاشات الاستحمام؟!
لكنك ستتدبر أمرك على كل حال، ولن تنتهي مدة إقامتك قبل أن تلم بمعظم ما تحتاجه بالغرفة باستثناء التليفزيون، لكنك مع صحبة جيدة لن تحتاج إليه، ولو جربت حتى في غير وجود الصحبة لن ينقصك الكثير.
ستعيش بشكل أفضل، وستنتبه إلى دروسك إن كنت في فوج سياحي. ستحتاج إلى مذاكرة ما شرحه المرشد السياحي بالأمس، لأنه سيسألكم عنه غذا، عندما يشرح درسا جديدا ، لن يدع درس الأمس دون مراجعة، ودون توجيه سؤال لتلاميذه، ليكون مدخلا للربط بين معالم الأمس وزيارات اليوم.
في السفر ستتعملق التفاهات، وستقضي وقتا أمام قائمة الطعام أطول ربما مما قضيته أمام ورقة أسئلة الهندسة الفراغية في الثانوية العامة.
في السفر، نعود تلاميذَ دون رعب الرسوب. وهذا هو تقريبا الممتع في السفر.