جرد الربيع الكاتب المحروس من حراسه. انهارت السلطة في بعض الدول، وتماسكت بالكاد في دول أخرى، لكنها انشغلت بملفات أكثر إلحاحًا من الثقافة فتركت الكاتب عاريًا
لم تعد الكلمة للناقد والمحرر الأدبي المحترف، الذي تزحزحت سلطته وتقلصت لصالح التشاركية في الفيسبوك وتويتر وجود ريدز
رغم الإخفاق السياسي نجح الربيع العربي في تحريك مؤشر العدالة الأدبية إلى حد بعيد
«لقد صار كل كاتب وكل كتاب في مكانه، أو في مكانه تقريبًا» قال صديقي، بينما كنا نتذاكر أسماء نجوم في دنيا الأدب خبت، ونصوصًا ذهبت إلى عتمة النسيان.
كان سؤالنا: هل هناك خطأ في الواقع الأدبي الحالي، أم أن الخطأ كان هناك في الماضي؟
الجواب يبريء اللحظة الراهنة بلا شك، لأن الأعمال الأدبية الأصيلة لم تزل باقية، بل يمكننا ملاحظة ظاهرة في سوق النشر بدت واضحة في موسم المعارض الحالي تتمثل في صدور ترجمات جديدة لعدد من الروايات الكلاسيكية الروسية والأوروبية التي سبقت ترجمتها من قبل. هذه العودة تؤكد أننا بصدد واقع ثقافي جديد يتشكل، لكن على أسس جديدة أكثر عدالة تحتفي بالجميل.
هناك جديد صنع هذا التغيير، وهو تطور وسائل الاتصال ثم الربيع العربي. وهذا الترتيب يعتمد الأسبقية الزمنية، وفي كل الأحوال فالربيع العربي ذاته هو ابن التحول في وسائل الاتصال الاجتماعي.
سلطة الـ goodreads
بدأ الربيع السياسي بعد نحو خمس سنوات من الربيع الإعلامي، حيث بدأ موقعا فيسبوك وتويتر عام ٢٠٠٦. هذا التطور خلخل المعادلة الاتصالية التي حكمت العالم منذ اختراع الصحافة، فلم يعد هناك رسالة اتصالية تمضي في اتجاه واحد من نخبة إلى جمهور عريض فيما يُسمى «الإعلام الجماهيري» بل صار هناك «إعلام الجمهور» فأصبح كل متصل بشبكة الإنترنت مرسلاً، يستطيع أن ينشيء رسالته التي تجد بدورها قارئًا ندًا لديه رسالته التي تشكل رقابة على الرسالة الأولى.
في مجال السياسة، لم تعد الكلمة للمحرر أو النجم التليفزيوني، وفي مجال الأدب والفكر ـ وهو ما يعنينا هنا ـ لم تعد الكلمة للناقد والمحرر الأدبي المحترف، الذي تزحزحت سلطته وتقلصت لصالح هذه التشاركية التي لم تقتصر على الفيسبوك وتويتر، حيث ولد بعدهما بعامين موقع متخصص للتواصل حول الكتب، هو تطبيق goodeads حيث يكتب القراء المحترفون بكل صراحة، وبكل عنف وشطط أحيانًا ويقيمون الأعمال بعدد نجوم يمنحونها، وفي هذا الموقع بالذات يمكن أن نشاهد ما يجري لكتب طالما طنطن لها النقد المحترف.
الربيع وأثره
أخفق الربيع العربي في تحقيق شعاره البسيط عن الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، وأسباب هذا الإخفاق لا تكمن في الربيع، بل في الثورة المضادة التي حولت مثاره إلى العنف. ورغم الإخفاق السياسي نجح الربيع في تحريك مؤشر العدالة الأدبية إلى حد بعيد، ولكي نعرف أثر الربيع لابد من مراجعة أمينة للمنظومة التي استقرت نحو سبعين عامًا من حكم الدولة الوطنية، أي دولة ما بعد الاستعمار الأجنبي.
التأريخ لهذه الحقبة يبدأ بحركة الضباط، أو ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التي طبعت المرحلة السياسية في المراكز الثقافية الأكبر: بغداد، دمشق، الجزائر، وتونس، أي المراكز التي تولتها أنظمة عسكرية تميل إلى توليفة من الاشتراكية الشعبوية، كان من ثمارها إنشاء مؤسسات عامة للنشر ومجلات أدبية وجوائز ترعاها الدولة كخدمة اشتراكية، قبل أن تحاكي دول الخليج المنظومة الثقافية ذاتها.
كسر هذا التحول عملية الانتخاب الطبيعي الذي كانت تمارسه مؤسسات النشر الخاصة ذات الطبيعة الربحية، إذ كان الناشر الخاص يختار الجيد من الأعمال، وكانت المجلة الأدبية تعيش من مواردها الذاتية توزيعًا وإعلانًا. في تلك المنظومة التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين في ظل ليبرالية منقوصة، كان القارئ هو السيد، فهو ممول عمل الكاتب.
مع مؤسسات الثقافة الرسمية أُغلقت دائرة التأليف دون الحاجة إلى القارئ. يُطبع الكتاب في مطابع الدولة، ويباع لمشتر يقتنيه لرخص سعره، دون التأكد إن كان سيقرأه أم لا، ثم يُخزَّن الكثير الذي يتبقى في مخازن الدولة، لكن نسخ الهدايا ستعرف طريقها إلى نقاد يمتدحون الكتاب والكاتب في مجلات الدولة وينوهون بهما في مهرجانات الدولة، ثم يمنحونهما جوائز الدولة!
مراجعة ناقصة
بعد سقوط صدام حسين، انفتح ملف ثقافة الدولة، لكن على عجل، ودون رؤية ثقافية عميقة، بل على خلفية رغبة في إدانة المثقفين العراقيين والعرب الذين ناصروا استبداد صدام حسين، وكان الفيصل هو حضور أو عدم حضور مهرجان «المربد».
لم يكن ذلك سجالاً ثقافيًا يتناول الظاهرة في عمومها العربي وفي جوهرها الثقافي، بل منابذة سياسية قام بها بعض المثقفين العراقيين ضد بعضهم البعض وضد العرب الآخرين من حضور المرابد، وتعييرهم بإدمان السمك المسجوف والإقامة الفاخرة في فنادق بغداد. لهذا لم يوسس الجدل لمراجعة ثقافية لظاهرة عربية عامة، وبدا المربد غلطة وحيدة للمثقف العربي، وبدا صدام المستبد الوحيد، واستأنفت الثقافة سيرتها حتى هب عليها الربيع، وأتى على أسماء ومشروعات فكرية وأدبية اكتشفنا أنها في خفة الغبار.
يستطيع القارئ الولوع بالأسماء أن يهتدي بنفسه إلى النجوم الآفلة، والنصوص التي أخلت مواقعها بسهولة؛ إذ ليس من طموح هذا المقال إثارة سجال، بل تأمل نسق ثقافي أقيم على الغش.
وقد رأينا قامات كبيرة تنحدر إلى خطاب طائفي رخيص، بعد حياة طويلة سابقة قضتها في الدفاع عن العلمانية وحقوق المواطنة المتساوية، ورأينا قامات نذرت حياتها للطنطنة ضد الاستبداد وضعت نفسها بسهولة مع الاستبداد، وتبنت خطاب الأنظمة عن المؤامرة الأجنبية التي أطلقت الربيع العربي!
ما فعله الكاتب الأُلعبان
من الظلم القول إن ستين عامًا من عمر الثقافة العربية كانت قبض ريح، لكن من الواضح أن ما أنتجته هذه الحقبة من الثقافة المحمية والمدعومة لا تمكن مقارنته بحصيلة النصف الأول من القرن العشرين، في ظل الليبرالية المنقوصة بالاحتلال، عندما كانت العلاقة مباشرة بين الكاتب والقارئ دون حراسة ودعم السلطة.
ويمكن أن نلاحظ بسهولة أن أهم ما أثمرته الحقبة المحروسة من الثقافة، كان من إنتاج القلة التي تمسكت بالهامش. المثال الأبرز على ذلك هو نجيب محفوظ الذي ظل نائيًا بنفسه عن دعم السلطة وتشبيكاتها رغم عمله كموظف في مؤسسات الدولة، ولم تلتفت إليه مصر الرسمية إلا بعد أن حصل على نوبل. اقتربت منه لتستثمره بوصفه نموذج الابن الناجح، حتى فجرت ابنته مفاجأة مؤخرًا؛ حيث أعلنت أن قلادة النيل التي حصل عليها ليست من الذهب. وإذا كانت هذه المفاجأة تكشف عن حجم الانهيار وعدم الانضباط في دولة مبارك، فهي تكشف بالقدر نفسه عن حقيقة أن السلطة لا تتسامح أبدًا مع العفة!
في قائمة الهامش المصرية المضيئة سنجد في الفكر أمثال جمال حمدان ونصر حامد أبو زيد، في تواز مع قامات عربية مستقلة في المشرق والمغرب من أمثال عبدالرحمن منيف ومحمد أركون وعبدالكبير الخطيبي، لكنهم لم يشكلوا السياق العام للثقافة العربية؛ بل كان السياق للمفكر والمبدع الذي تحتضنه السلطة بوضوح، والمفكر الألعبان الذي اخترع لنفسه مساحة من الاستقلال الشكلي، بخطاب من التنوير الجبان يضمن له ذهب المعز، ويقيه شر سيفه. وهذا هو النوع الأخطر.
عاش المفكر الألعبان الذي يبدو نزيهًا على ترديد مقولات الحرية دون المطالبة بها في بلده، والتصادم الدائم مع الخطاب الديني، وكأنه العقبة الوحيدة التي تكبل المستقبل العربي، مع التغاضي عن الاستبداد السياسي تمامًا، وإذا ما ذُكر الاستبداد فهو مذموم بشكل عام، دون الإشارة إلى مستبد بعينه أو واقعة محددة. والأسوأ من ذلك بالطبع هو وعيه بالدور الذي يؤديه للسلطة، التي ترعى الخطاب الديني المستبد والخطاب الثقافي المناوئ له معًا، وكأنها مراهن يملك كل الديوك، ويخرج رابحًا من كل رهان على صراع الديكة الذي يثار مرة بسبب فتوى دينية ومرة بسبب جملة في كتاب أدبي أو فكري.
وبالطبع، كانت المعارك تنتهي بين الطرفين بخسارة المثقف، وتخفيض سقف الحرية الذي تتمتع به مؤسسات النشر، أما الخسارة الأكبر فهي للثقافة والأدب بشكل عام، حيث ارتبطت في أذهان العامة بالكفر، لأنهم نادرًا ما يرون المثقف خارج هذه المساحة من الصدام، أي نادرًا ما يجدونه مناصرًا لقضايا تمس حياتهم بشكل مباشر، كالغلاء مثلاً.
بالنتيجة، عاشت الثقافة هشة مسنودة على الدولة، وعاش المبدع والمفكر، محروسًا بقوة السلطة، وقد ينال الشهرة من كثرة الإلحاح باسمه على الجمهور.
الزلزال المربك
جرد الربيع الكاتب المحروس من حراسه. انهارت السلطة في بعض الدول، وتماسكت بالكاد في دول أخرى، لكنها انشغلت بملفات أكثر إلحاحًا من الثقافة فتركت الكاتب عاريًا، وفي الوقت نفسه صار من الصعب على الكاتب أن يضع قدمًا مع السلطة وقدمًا مع الجمهور كما فعل طوال سبعين عامًا. صار الاصطفاف واضحًا، وانحاز كُتَّاب إلى السلطة القديمة العائدة، وهم بالحقيقة ينحازون إلى دفء الرعاية الذي يعرفونه. لكنهم لا يعرفون أن السلطة التي كسبت جولة وبقيت قابضة على مؤسسات الدولة بهذا القدر أو ذاك من التمكن، لم تعد تقبض على الوعي السائر نحو مراجعة كل شيء، وأول المراجعة هي مراجعة أوزان النصوص في ضوء الهشاشة المعراة لكتابها، لذلك أصبح كل واحد في مكانه أو في مكانه تقريبًا.
وهذا لا يعني أن العلاقة أصبحت شفافة تمامًا بين شريكي الأدب والفكر (الكاتب والقارئ) فلم تزل هناك ثغور حراسة، وسنحتاج إلى وقت إضافي، لكي يولد نسق ثقافي جديد، حر بالكامل، غير النسق الذي اكتشفنا أنه كان قبض ريح.