هل علينا أن نواصل عمل الخير؟

  أثار تصريح رئيس جمعية الأورمان أمام رئيس الدولة عن عدم وجود فقراء في مصر زوبعة من التعليقات في شبكات التواصل الاجتماعي، التي لم تزل الغلبة فيها للفئأت الأكثر استنارة. وقد ذهبت معظم التعليقات إلى التساؤل عن سبب استمرار تلك الجمعية ومثيلاتها في جمع التبرعات؟!

وبصرف النظر عن حقيقة وجود الفقراء الذين هم نحن أغلبية المصريين يبقى السؤال مشروعًا: هل يجب أن نستمر في فعل الخير عبر هذه الآلية؟

   الزوبعة التي بدأت في وسائل التواصل انتهت على بابها مثلما بدأت؛ فالذين استنكروا هذه المجاملة اللطيفة من رئيس الجمعية  هم في الغالب ليسوا من بين ممولي هذه الجمعيات. لكن أثرها يمسهم كما يمس الجميع. 

   أقل الآثار شأنًا هو حجم الإعلانات التي تطورت هذا العام وأصبحت مواد دراميةً وأوبريتات غنائية طويلة تستغني عن أشلاء الدراما المعروضة حولها تحت اسم مسلسلات. شخصيًا، لم أر من مواد رمضان إلا ما اقتحم بصري وسمعي عنوة في مكان عام أو عندما أكون ضيفًا. هذه الاستهانة بحقوق المشاهد لا يمكن أن تحدث إلا لمشاهد/ مواطن مستباح. هناك أخلاقيات تشترط التوازن بين المواد الإعلامية والإعلانية، وتسمح بقطع المواد الإعلامية في حدود شديدة الضيق وتشترط عدم تقطيع الأعمال الفنية بهذا الشكل المهين لمبدعيها وللمشاهد على السواء، والمهين أصلاً لأصحاب الحاجات، الذين يُصورون بالمخالفة لكل أخلاقيات الإعلام. وقد تم العصف بهذه المعايير.

   ولو اقتصر الضرر على العلاقة بالتليفزيون لهان الأمر. يمكن للمتضرر بضغطة زر أن يغلق التليفزيون أو يتفادى القنوات التي تأتيه منها الإهانة ـ وأظن أن الكثيرين فعلوا ذلك مؤخرًاـ السماوات مفتوحة وهناك قنوات من دول أخرى أقل استهانة بمشاهديها. 

 لكن خطورة الظاهرة أكبر بكثير من علاقة بين مشاهد ووسيلة إعلام تحولت إلى  وسيلة دعاية وإعلان. الأمر يتعلق بإمكانات التطور السياسي في ظل تعايش الأغلبية مع متناقضات  تنبىء بحجم الجهد المطلوب من أجل صنع مستقبل سياسي.

   من النافل القول إن ترعرع الظاهرة تم في النصف الثاني من سنوات مبارك الثلاثين. النصف الذي اقتسمت فيه دولة يوليو ما بين يديها من السطوة مع رجال الأعمال مقابل دخول نجلي الرئيس بينهم. تحت العباءة الفضفاضة للدولة الرخوة تم تأسيس اقتصاد الإحسان بدلاً من اقتصاد الحقوق والواجبات. غموض شديد يكتنف الثروات الكبيرة وضرائبها في مقابل بعض الإحسان يقوم به رجل الأعمال. 

  في التوقيت نفسه بدأت جمعيات الإحسان في الانتشار واستطاعت بإعلاناتها أن تعفي رجل الإحسان الكبير والدولة معًا في ضربة واحدة وتضع العبء على عموم الشعب الذي يستطيع التبرع ولو بجنيه. وهذا هو الأثر الأسوأ الذي يعيق التقدم السياسي؛ فهذه المشروعات تخفف عبء الحكومة، وتقلل حاجتها إلى الكفاءة والشفافية، وتقلل فرص إعادة توزيع الأعباء الضريبة الموزعة بشكل خاطئ.

 «اكفل قرية فقيرة» شعار أصبح معممًا وعلنيًا عبر الإعلان، ولم تشعر معه دولة مبارك بالخجل؛ فالكفالة مرتبطة بموت العائل، وعندما يتعلق الأمر بكفالة قرية فالعائل الذي مات هو الدولة. هذا لم يكن مهمًا لدى النظام؛ فالمهم ألا يرفع الفقير عينه في المحسنين إليه، في حين أن المدرسة أو المستشفى التي بنيت من أجله هي حقه على الدولة، وتستطيع أن تفي به إذا طبقت نظامًا ضرائبيًا عادلاً!

 هذا الإذلال للفقراء الذي يمارسه نظام الإحسان  كان واضحًا في أذهان من أرادوا تشييد دولة الأمل. خلال ثمانية عشر يومًا راود الطليعة الواعية أمل بعودة الدولة العزيزة التي تجمع الضرائب بعدل وتوزعها بعزة. 

  ولابد لجمال مبارك الذي عليه أن يظهر في المجتمع بقدر أن يفرح بهزيمة هذا الحلم، وازدهار«اقتصاد الإحسان» المستند في أساسه إلى الوازع الديني لدى المصريين. لكن الوازع الديني لا يجب أن يخاصم العقل، لأن استخدام العقل أمر إلهي كذلك، بل إن القراءة والتفكر ترد في القرآن أضعاف ما يرد الأمر بالزكاة والإحسان.

 ودون الدخول في جدل حول الازدواج الضريبي في الدولة الحديثة بين الضرائب  من جهة والزكاة والصدقات من جهة أخرى، فلابد من سؤال حول ضرورة هذه التبرعات التي تغطي بنود إنفاق هي من صميم عمل الحكومة التي تزايدت وتيرة  فرضها للضرائب وتسعى للوصول بأسعار الخدمات إلى التكلفة الاقتصادية.

   القول بأن هذه الظاهرة كانت موجودة دائمًا مردود عليه، لاختلاف هذا الأسلوب التشاركي عن أسلوب الوقف الذي  ظل فاعلاً من بداية الدولة الإسلامية حتى ١٩٥٢ في مصر. لا تشبه هذه التبرعات الصغيرة الأوقاف في شيء. الوقف إحسان من غني يخرجه طواعية وهو قادر، وليس بالضغط بالوازع الديني على عموم المصريين الذين يعانون في حياتهم. وكان الموقف يحدد طريقة إدارة وقفه بأبسط الطرق وأقلها إهدارًا وفسادًا. 

 كانت الأوقاف ركيزة ما يُسمى الآن بـ «المجتمع المدني» فإن كان الدافع الديني موجودًا لدى بعض صغار الموقفين، فالوازع الحضاري كان موجودًا في الأوقاف الضخمة مثل جامعة القاهرة، أي أن الأوقاف لم تساهم في شق المجتمع المصري على أساس ديني مثلما تفعل تبرعات جمعيات الإحسان الحديثة.

  وكان من الطبيعي أن يستهدف نظام يوليو هذا المظهر المدني، ويضع القوانين المتتالية لتنظيم الأوقاف وأنشأ لها وزارة، جعلت منها وسيلة للضبط والسيطرة بدلاً من أن تكون وسيلة لقوة المجتمع في مواجهة السلطة. ولنا أن نراجع التاريخ ما ارتكبته أموال الأوقاف بعد «التنظيم» من فساد وإفساد، حيث تذهب عطاياها من الشقق التي تبنيها للفئات الاجتماعية النافذة.

  انفصلت أموال الأوقاف عن واقفيها عنوة، لكن المشروعات التي تقام بأموال المتبرعين الجدد تولد منفصلة عنهم، وفشلت كل المطالبات لهذه الجمعيات بإعلان حصيلتها ووجوه صرفها لكن ما يرشح من معلومات يؤكد أنها عدة مليارات يضيع ما بنحو سبعين بالمئة منها في الإعلانات والعلاقات العامة (موائد الإفطار الفخمة في الفنادق وغيرها) فإذا أضفنا مكافآت المستشارين وأجور العمل، نكتشف أن الفقراء الذين يتم التعريض بفقرهم ومرضهم يستفيدون في حدود العشرة بالمئة من إجمالي الحصيلة.