الشعوب المصرية بين مصر الحواضر ومصر البحر والصحراء

الحواضر المتروكة للفوضى

 

للعاصمة الجديدة ـ التي لم تعثر على اسمها بعد ـ صورة رسمها شكل وسعر السكن فيها أكثر مما رسمتها نية نقل الإدارة إليها. أصبحت لدى الكثيرين تجسيدًا لواقع الانفصال؛ انفصال السلطة وانفصال الطبقات الاجتماعية. 

   لكن الحقيقة أن فكرة الانفصال لم تبدأ مع هذه المدينة، لكنها نبهت إليه في جو من التجاذب السياسي. لكن واقع الانفصال بدأ بشرم الشيخ التي تحولت في نهايات حكم مبارك إلى إمارة يحكم الرجل العجوز منها، بالتوازي مع انتشار قرى الساحل الشمالي وقرى ومدن البحر الأحمر وضواحي القاهرة الفخمة في التجمع الخامس و٦ أكتوبر. 

 والحقيقة كذلك أن العمارة وتخطيط المدن جزء من السياق الثقافي الاجتماعي لأي بلد في حقبة ما، وهي من أرسخ مصادر التأريخ التي يمكن الرجوع إليها فيما بعد. وقد بدأت فكرة تمزيق مصر إلى أمصار في الصحة؛ فأصبح العلاج الأقل من المعقول لمن يملك فحسب، وفي التعليم الذي توزع على مدارس حكومية وحكومية مميزة، ومدارس دينية إخوانية وأزهرية وكنسية ومدارس أجنبية تدين بمرجعياتها لعديد من الدول مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا. وفي ظل هذا الانقسام لا يمكن الحديث عن وجدان واحد لشعب واحد أو فرص متساوية في الوظائف لهذا التنوع الغريب من المتخرجين.

 الفصل العمراني بين الشعوب المصرية إذن هو جزء من سياق عام وفلسفة أو لا فلسفة سياسية. والتجاوزات التي تم ارتكابها عند تأسيس المدن الجديدة والمنتجعات الشاطئية الفخمة ترقى إلى مستوى الجرائم، حيث حصل المستثمرون على الأرض ـ وهي ملك عام ـ بملاليم وبنوا فوقها الشاليهات والفيلات   التي يبيعونها بالملايين، كما تسببت هذه المنتجعات في خصخصة البحر ـ وهو ملك للجميع كذلك ـ وهذه جريمة أخرى أثرى منها المقاولون ووضعوه في أيدي من يملك شراء وحدة في قرية سياحية. إعادة توجيه للثروة العامة بفبركة مليارديرات من المقاولين وإفقار الأغلبية وحرمانها حتى من هواء الله ومنظر البحر!

   هذه المنتجعات والضواحي تنتخب سكانها الذين يريدون إعطاء ظهورهم للمدن القديمة التي شاخت وأصبحت رثة. والمدن لا تشيخ، بل تشيخ الإدارة أو تتعمد التنصل من المدن عداء لفكرة المدنية نفسها وانتصارًا لمجمعات سكانية، سكانها منعزلون في فيلاتها بما لا يمكن أن يشكل نسيجًا مجتمعيًا أو يخلق رأيًا عامًا، فالشوارع مجرد طرق تؤدي إلى البيت المحروس وليست شوارع بالمعنى الاجتماعي يتمشى على أرصفتها الناس وينظر أحدهم في عيون الآخرين بينما يتريضون أو يشترون حاجاتهم كما في المدينة التقليدية.

  خلال عقدين لم يتقتصر الأمر على شق مصر ديموجرافيًا إلى أمصار؛ واحدة في الصحراء والبحر وأخرى في الحواضر القديمة وثالثة في أحزمة العشوائيات الفقيرة حول المدن وفي القرى المتروكة لفوضاها. لكن للأسف تراوح التعامل مع  هذه الحواضر عبر مسيرة الانسلاخ العمراني بين الإهمال والعشوائية عند الالتفات إلى مشكلاتها بما يشبه التنكيل، من العاصمة مرورًا بالإسكندرية إلى أسوان!

 لا توجد رؤية متكاملة لإعادة شباب هذه المدن إستنادًا إلى الجديد الذي طرأ في مجالي تخطيط المدن وتخطيط المرور. بالإمكان تحويل مناطق عشوائية مثل مثلث ماسبيرو إلى حديقة، بدلاً من زرع مجموعة من الأبراج فاقدة الهوية تزيد القاهرة اختناقًا. كان من الممكن الاحتفاظ بالترام ضابطًا لإيقاع المرور، وكان من الواجب عدم تشغيل الوحوش الجارحة «الميكروباص» في شوارع القاهرة. لا توجد مدينة لها عراقة عاصمتنا تسمح بتشغيل هذه الوسائل البذيئة التي تجبر الإنسان على الانحناء إذا ركبها وإذا نزل منها وتبقيه خائفًا مدة الرحلة!

   من يحتفظ بأقل القليل من قدرته على الدهشة لابد أن يصاب بكل مشاعر الإحباط والغضب إذا سار خطوات في ميدان رميس الذي يعد نموذجًا للفوضى البصرية والسمعية والخطر على الحياة. 

 هذا الميدان نموذج مناسب لبيان معنى ضيق النظر وانعدام التخطيط، لقد تعرض للتجديد أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت الوعود بانتهاء مشكلاته لكن المشكلات تتفاقم، فالمخطط يتصرف في مساحة صغيرة ،وكأن الضيق قدر، بينما تحتفظ محطة القطار بفناء مسور بسور. ما الذي يمنع من إضافة هذا الفراغ للميدان، وما الذي يمنع من امتداد المخطط إلى الفضاء في مدخل الفجالة، وماذا ستفعل الدولة بمسار مترو مصر الجديدة المزال؟ هل تعيده للحياة مع الاعتذار عن العشوائية السابقة أم تضيفه إلى مسار المركبات العادية في شارع رمسيس؟ وهل يمكن أن تسلخ منه مسارًا للدراجات؟

  محطة القطار لا تليق بمدينة في عراقة مصر. كل محطات القطار في العالم تنفتح على الشارع مباشرة ولا تحتفظ بهذه الفضاءات العشوائية، بينما يعاني داخلها من شيخوخة وعشوائية مقيتة.  هل من الملائم أن تظل أرصفة الإسكندرية وقبلي منفصلة بهذا الشكل؟ ألا يمكن إعادة تخطيط هذه المتاهة من الداخل؟ 

  ربما كان وضعها الحالي أقصى ما وصل إليه التخطيط وقت بنائها، لكن ينبغي أن يعاد تخطيطها من الداخل لتصبح على الأقل في مستوى محطات مدن أوروبية يقطنها نصف مليون مواطن!

  عقم النظام المروري ورثاثته مجرد مثال على إهمال حواضر مصر المهمة، التي تحتاج إلى إعادة تأهيل بمحاور طرق جديدة أرضية وليس بالكباري العلوية، يمكن كذلك إلزام العقارات بدورات صيانة وطلاء للواجهات، سعيًا إلى بعض الانسجام بين مصر الحواضر ومصر البحر والصحراء، خصوصًا وأن الأخيرة لا تستغني عن القديمة الرثة، بل إنها تتعيش عليها، فسكان مصر الرثة المنبوذة هم من يستهلكون منتجات الرأسمالية التي تتحول فوائضها إلي منتجعات.

  حق المواطنين في العدالة العمرانية وواجب الدولة في تهيئة سبل الانسجام الاجتماعي هو الحق الأولى بالرعاية، أما على مستوى السياحة فإن هذه الجنات الصحراوية لن تحظى باحترام السائح في ظل التباين بينها وبين المدن العريقة. يمكن لرحلات الشارتر أن تحمل نوعية واحدة من سياح الترفيه الذين لا يعنيهم إلا الراحة في مكان مشمس، بينما يحتاج السائح الأعمق ثقافيًا إلى معرفة المدينة المصرية الحقيقية بمعالمها الثقافية، لكنها الآن مفزعة لسكانها فما البال بالغريب؟!

مصر العليا في البحر والصحراء